الميثاق نت -

الإثنين, 11-سبتمبر-2023
د‮. ‬عبدالوهاب‮ ‬الروحاني -
عندما‮ ‬تقرأ‮ ‬البردوني‮ ‬او‮ ‬تقرأ‮ ‬عنه‮ ‬لا‮ ‬يمكن‮ ‬الا‮ ‬ان‮ ‬تجده‮ ‬مختلفاً،‮ ‬ولكن‮ ‬في‮ ‬سماء‮ ‬الفرادة‮ ‬والتميز،‮ ‬هو‮ ‬يشبه‮ ‬نفسه‮ ‬ولا‮ ‬يشبهه‮ ‬أحد،‮ ‬لا‮ ‬في‮ ‬شعره،‮ ‬ولا‮ ‬في‮ ‬نثره،‮ ‬ولا‮ ‬في‮ ‬فكره‮ ‬ولا‮ ‬في‮ ‬أدبه‮ ‬ونقده‮ .‬
شعر البردوني مختلف تماماً، تجاوز القديم والحديث وخلق الأحدث الذي لم يستطع احد ان يصل اليه .. تفعيلته وبحور قصائده ليست مما جاء به الخليل بن احمد الفراهيدي، ولا من مفاتيح صفي الدين الحلي، انما هي بحور ومفاتيح وأوزان البردوني.
أحدث البردوني ثورة عاصفة في الشعر العربي، فاختط منهجاً جديداً في الشكل والبناء؛ كان شعره عصفاً مقاوماً، وسخرية قاتلة، ونقداً غاضباً وروحاً وطنية خالصة، ونبوءة صادقة تكشفها قصائده يوماً بيوم ولحظة بلحظة..
آخر‮ ‬ما‮ ‬كشفته‮ ‬لنا‮ ‬نبوءات‮ ‬هذا‮ ‬الشاعر‮ ‬اليماني‮ ‬العملاق‮ -‬في‮ "‬مُغني‮ ‬الغُبار‮" ‬قوله‮:‬
إلى‮ ‬أينَ؟‮ ‬هذا‮ ‬بذاك‮ ‬اشتبَهْ
ومِن‮ ‬أينَ‮ ‬يا‮ ‬آخر‮ ‬التجرِبَهْ؟
دخلتُ‮ ‬الحواري،‮ ‬ومنها‮ ‬خرجتُ
بدكتورةِ‮ ‬الذلِّ‮ ‬والمسغبَهْ
عرفتُ‮ ‬القرارات‮ ‬رغمَ‮ ‬السطوحِ
كما‮ ‬تعرفُ‮ ‬الخِنجرَ‮ ‬الأرنبَهْ
ومن‮ "‬وجوه‮ ‬دخانية‮ ‬في‮ ‬مرايا‮ ‬الليل‮" ‬تأملوا‮ ‬البردوني‮ ‬وهو‮ ‬يبحث‮ ‬عن‮ ‬حزن،‮ ‬ونزيف،‮ ‬وصوت،‮ ‬وحلم،‮ ‬واسرار‮ ‬تكاد‮ ‬تتلاشى‮ ‬في‮ ‬جوف‮ ‬الليل؛
أيها‮ ‬اللَّيل‮.. ‬أنادي‮ ‬إنما
هل‮ ‬أنادي؟‮ ‬لا‮... ‬أظن‮ ‬الصوت‮ ‬وهمي
إنه‮ ‬صوتي‮... ‬ويبدو‮ ‬غيره
حين‮ ‬أصغي‮ ‬باحثاً‮ ‬عن‮ ‬وجه‮ ‬حلمي
من‮ ‬أنا؟‮... ‬أسأل‮ ‬شخصاً‮ ‬داخلي
هل‮ ‬أنت‮ ‬أنا؟‮ ‬ومن‮ ‬أنت؟‮ ‬وما‮ ‬اسمي؟
الشعب‮ ‬أعمى‮:‬
أما‮ ‬في‮ "‬رواغ‮ ‬المصابيح‮" ‬فهو‮ ‬يكشف‮ ‬خداع‮ ‬الليل،‮ ‬ويبين‮ ‬افضل‮ ‬خيارات‮ ‬الطيبين‮ ‬في‮ ‬الموت‮:‬
القناديل‮ ‬يا‮ ‬دجى‮ ‬منك‮ ‬أدجى
المنايا،‮ ‬أم‮ ‬شرطة‮ ‬الليل‮ ‬أنجى؟
ربما‮ ‬كنت‮ ‬تسأل‮ ‬الآن‮ ‬مثلي
وأنا‮ ‬أجتدي‮ ‬بإبطيك‮ ‬محجى
القناديل‮ ‬لا‮ ‬تري‮ ‬الشعب‮ ‬نهجاً
وتري‮ ‬قاهريه‮ ‬عشرين‮ ‬نهجا
طرق البردوني ابواب البسيطاء، وصوَر جحيم معاناتهم، ولم يطرق باب الحاكم بل عرى ظلمه وكشف زيفه.. ولم يدارِ يوماً.. وانما كان فزاعة مقلقة حتى صديقه الحمدي لم يسلم من تقريعاته .. قيل انه عندما سأله وهو يقوده ممسكاً بيده ومودعاً: _كيف القيادة تقود الشعب يا استاذ‮ ‬عبدالله؟‮ ‬فرد‮ ‬عليه‮ ‬بسرعة‮ ‬بديهته‮ ‬وذكائه‮ ‬المعهود‮ " ‬الشعب‮ ‬أعمى‮ ‬يا‮ ‬فندم‮"..‬
أشهر‮ ‬أعلام‮ ‬اليمن‮:‬
في مطلع السبعينيات كان البردوني اشهر اعلام اليمن على الاطلاق ليس فقط عند النخب وانما عند عامة اليمنيين ، وشهرته كانت تسبق اصداراته، فكان حضوره طاغياً في النادي والشارع والمدرسة، وكنا نتسابق على حفظ ابيات من قصائده الشهيرة:
والأباة‮ ‬الذين‮ ‬بالأمس‮ ‬ثاروا
أيقظوا‮ ‬حولنا‮ ‬الذئاب‮ ‬وناموا
حين‮ ‬قلنا‮ ‬قاموا‮ ‬بثورة‮ ‬شعب
قعدوا‮ ‬قبل‮ ‬أن‮ ‬يروا‮ ‬كيف‮ ‬قاموا‮ ‬
كنا‮ ‬ونحن‮ ‬التلاميذ‮ ‬الصغار‮ ‬نتباري‮ ‬ايضا‮ ‬في‮ ‬حفظ‮ ‬القصيدة‮ ‬الاكثر‮ ‬شهرة‮ "‬ابو‮ ‬تمام‮ ‬وعروبة‮ ‬اليوم‮":‬
ما‮ ‬أصدقَ‮ ‬السيف‮ ‬إنْ‮ ‬لم‮ ‬ينْضِهِ‮ ‬الكذِبُ‮ ‬
‭_‬وأكذبَ‮ ‬السيف‮ ‬إن‮ ‬لم‮ ‬يصدق‮ ‬الغضبُ
أدهى‮ ‬من‮ ‬الجهل‮ ‬،‮ ‬عِلْمٌ‮ ‬يطمئنُّ‮ ‬إلـى‮ ‬
‭_‬أنصافِ‮ ‬ناسٍ‮ ‬طغوا‮ ‬بالعلم‮ ‬واغتصَبوا
قالوا‮ ‬همُ‮ ‬البَشَرُ‮ ‬الأرقَى،‮ ‬وما‮ ‬أكلوا
شيئاً،‮ ‬كما‮ ‬أكلوا‮ ‬الإنسانَ‮ ‬أو‮ ‬شـــربوا
ماذا‮ ‬أحدث‮ ‬عن‮ ‬صنعاء‮ ‬يا‮ ‬أبتي؟
مليحة‮ ‬عاشقاها‮ ‬السلُّ‮ ‬والجربُ
كنت وانا طالب الاعدادية اسمع احاديث البردوني في اذاعة صنعاء، واتابع باهتمام "مجلة الفكر والادب" التي تعهد قراءتها المذيع الشهير عبدالملك العيزري (رحمه الله) على مدى اكثر من عقدين من الزمن، وكان البردوني رمزاً للكلمة والابداع والتجديد..
مدارس‮ ‬الشعراء‮:‬
"رحلة في الشعر اليمني.. قديمة وحديثه" كان من اوائل كتب الاستاذ البردوني التي قرأتها اكثر من مرة، وكنت كلما قراته مرة احسست بأني اقرأ كتاباً جديداً؛ ذلك لان لغته مشوقة لدرجة الشغف، ومفرداته منمنمات تشكل لوحات فنية بين صفحات وتقسيمات كتاب ..
الكتاب الذي مثل دراسة علمية محكمة للشعر اليمني قديمه وحديثه جاء (ربما) لإظهار ما تجاهله طه حسين عن شعراء اليمن في (الشعر الجاهلي) .. فقدم فيه البردوني رؤية نقدية ودراسة علمية لشعراء اليمن لم يسبقه اليها احد من ممتهني النقد الادبي من الاكاديميين؛ قسم فيها الشعر‮ ‬اليمني‮ ‬وشعرائه‮ ‬الى‮ ‬عصور‮ ‬ومدارس‮ ‬والوان‮ .. ‬كمدرسة‮ ‬صنعاء،‮ ‬وزبيد،‮ ‬وحجة،‮ ‬وربط‮ ‬نشاط‮ ‬كل‮ ‬مدرسة‮ ‬بزمانها‮ ‬ومسيرة‮ ‬الاحداث‮ ‬فيها‮ ‬ازدهارا‮ ‬وتراجعا‮.‬
قالت‮ ‬وقلت‮:‬
في (رحلته) قراءة بديعة عن وضاح اليمن.. الشاعر العاشق، الاكثر جرأة وشهرة .. المقنع لفرط حسنه وبهائه الذي مات بصندوق "ام البتين" .. قدمه البردوني كشاعر وفارس، واستحضر فيها قصيدته التي قالها في معشوقته "روض"، قالت وقلت:
‮ ‬يا‮ ‬رَوضُ‮ ‬جيرانُكُمُ‮ ‬البَاكِرُ
فَالقَلبُ‮ ‬لاَ‮ ‬لاَهٍ‮ ‬ولا‮ ‬صَابِرُ
‮ ‬قَالَت‮ ‬أَلاَ‮ ‬لاَ‮ ‬تَلِجَن‮ ‬دَارَنا
إِنَّ‮ ‬أَبَانا‮ ‬رَجُلٌ‮ ‬غَائِرُ
‮ ‬قُلتُ‮ ‬فَإِنّي‮ ‬طالبٌ‮ ‬غِرَّةً
مِنهُ‮ ‬وسَيفي‮ ‬صَارِمٌ‮ ‬باتِرُ
قَالَت‮ ‬فَإنَّ‮ ‬القَصرَ‮ ‬مِن‮ ‬دُونِنا
قُلتُ‮ ‬فَإِنّي‮ ‬فَوقَهُ‮ ‬ظَاهِرُ‮ ‬
قَالَت‮ ‬فَإِنّ‮ ‬البَحرَ‮ ‬مِن‮ ‬دُونِنَا
قُلتُ‮ ‬فإنّي‮ ‬سَابحٌ‮ ‬مَاهِرُ
قَالَت‮ ‬فَإِنّ‮ ‬الله‮ ‬بَيننَا
قُلتُ‮ ‬فَرَبيِّ‮ ‬رَاحِمٌ‮ ‬غَافِرُ
قالت‮ ‬لقد‮ ‬اعييتتا‮ ‬حجة
فأت‮ ‬اذا‮ ‬ما‮ ‬هجع‮ ‬السامر
وتلك كانت من أجمل القصائد التي حفظتها لوضاح وعلقت في الذاكرة من كتاب البردوني (رحلة في الشعر اليمني) .. رحم الله البردوني وزمن البردوني.. لم التق احدا له معرفة باليمن الا وكان البردوني عنوان حديث ممتع وطريف..
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:37 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-64805.htm