عبدالحليم قنديل - بدت الرواية "الإسرائيلية" لمجزرة المستشفى "المعمدانى" مثيرة للسخرية ، قالت إنها قصفت "مرآب" المستشفى وليس المستشفى نفسه ! ، واتهمت حركة "الجهاد" الفلسطينية بقتل مئات الفلسطينيين فى الحادث المروع ، وبدعوى إطلاق صاروخى خاطئ من مقبرة قريبة ، وتصورت أنها تدعم الاتهام العبثي بتسجيل صوتي يسهل اصطناعه ، وبرغم هزلية الرواية الكذوب ، فقد وجدت من يصدقها ويروجها ، ليس فقط في "الميديا" الغربية ، بل أخذ بها الرئيس الأمريكي "جو بايدن" ، الذى ذهب إلى "إسرائيل" فيما أسماه زيارة دعم وتضامن ، بينما هي زيارة تهنئة لكيان الاحتلال ، وإشهار امتنان لنجاحه في ارتكاب مذابح وحشية ، أودت بحياة أكثر ن (7000) فلسطيني إلى وقت كتابة السطور ، نصفهم من النساء والأطفال ، مع اجتثاث عشرات العائلات الفلسطينية بكاملها ، من الأجداد والجدات إلى الأحفاد والحفيدات ، في غارات جوية لا تتوقف بالطائرات والصواريخ والقنابل الأمريكية ، وبقوات أمريكية نزلت على الأرض بالآلاف ، وبأكبر حشد عسكري بحري أمريكي على الشواطئ ، تشارك به عشرات القطع البحرية الحربية ، بينها أكبر حاملتي طائرات (جيرالد فورد ودوايت أيزنهاور) ، فيما يعد خروجا بالمشاركة الأمريكية المباشرة من الظلال إلى العلن ، وتأكيداً لحقيقة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب ، فأمريكا هي "إسرائيل" ، وبينهما تطابق واندماج استراتيجى ، و"إسرائيل" هي أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في العالم ، و"لو لم تكن موجودة لاخترعناها" ، بنص تعبيرات الرئيس الأمريكي المتفاخر بصهيونيته ، وبولائه المطلق لما يسميه "أمن إسرائيل" (!) .
وربما لم يعد من جدال في الحقيقة الكبرى ، التي تقول ببساطة صادمة ، أن الذى يقتل الفلسطينيين ويقتلنا ، هم الأمريكيون والغرب عموما ، وأن المذابح الإسرائيلية بالقصف والحصار والتجويع والقتل البطيئ والمتعجل ، هي مذابح غربية خالصة جامعة ، وليس من حاجة إلى أدلة مضافة بعد كل ما جرى ، والفزع الذى أبدته حكومات الغرب بعد إذلال المحتلين في هجوم 7 أكتوبر ، وترديد أكاذيب مفضوحة عن قطع رقاب أطفال إسرائيليين ، ثم البرود والتأييد الضمني والظاهر لتدمير وإفناء "غزة" حجراً وبشراً، والسعي لتكرار سيناريو النكبة الفلسطينية الأولى عام 1948م، وبذات الطريقة ، أي بتخويف الفلسطينيين بمذابح همجية ، وإجبارهم على الخروج والنزوح من أراضيهم المقدسة ، والذهاب إلى أقطار عربية مجاورة ، تماماً كما يجري اليوم في دفع الفلسطينيين من سكان "غزة" للهجرة القسرية جنوبا إلى شبه جزيرة "سيناء" المصرية ، والخطة كما هو معروف ، ليست وليدة اللحظة ، فقبل نحو مئة سنة ، كان "حاييم وايزمان" رئيس المنظمة الصهيونية العالمية ، وأول رئيس لكيان الاحتلال فيما بعد ، كان "وايزمان" يزور مصر وقت الاحتلال البريطاني ، ويتباحث في اقتراح إقامة "إسرائيل" على أراضي سيناء ، وبعد عقود من الحروب مع الكيان ، كانت مصر الطرف الأساسي فيها ، ووصولاً إلى عقد ما أسمي "معاهدة السلام" ، وترك "إسرائيل" لسيناء كلها ، وما جرى فيما بعد من تطبيع رسمي ، عادت سيناء إلى الواجهة في تفكير المخططين الصهاينة ، ليس كوطن للإسرائيليين هذه المرة ، بل كوطن بديل للفلسطينيين الذين يجري طردهم ، ومن أوائل القرن الجاري حتى نهاية عشريته الأولى ، كانت الخطة تدرس فى مراكز التفكير ، وبالذات في مركز "بيجين ـ السادات" الإسرائيلي ، وإلى أن تبلور سيناريو مفصل ، عرف باسم الجنرال "جيئورا أيلاند" الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي "الإسرائيلي" ، يقوم على اقتطاع 720 كيلومتراً مربعاً من أراضي سيناء ينتقل إليها الفلسطينيون من "غزة" ، ومقابل منح مصر مساحة مماثلة من صحراء النقب ، وإقامة بنية تحتية للنقل السطحي والنفقي ، تصل مصر بالأراضي الأردنية ، وقد عرضت خطة "أيلاند" على الإدارة الأمريكية زمن رئاسة "باراك أوباما" ، وجرت ضغوط مكثفة أواخر أيام حكم الرئيس الأسبق "مبارك" ، الذي لم يقبل حتى مجرد فتح نقاش فيها ، كانت الخطة بعضا من تصورات أوسع ، حملت عنوان "التسويات الإقليمية" ، وكان هدفها الظاهر بغير كثير من تأويل هو تصفية القضية الفلسطينية ، بنزع وجود الشعب الفلسطيني من فوق أرضه التاريخية المقدسة ، وطرد سكان "غزة" إلى مصر ، كما طرد سكان الضفة الغربية إلى شرق نهر الأردن ، وبديهى أن يرفضها الشعب الفلسطينى ، فوجوده وثباته على أرضه هو رأسمال قضيته التي لا تموت ، وكان بديهيا أيضا ، أن ترفضها الشعوب العربية ، وحتى الحكام في مصر والأردن بالذات ، وأن تتكاثف الضغوط الأمريكية والغربية على مصر بالذات ، وباستثمار أدوار إضافية لأطراف مريبة فى المنطقة العربية ، وهو ما أسقط الأقنعة كلها عن الوجوه القبيحة ، وأحبط محاولة الرئيس "بايدن" للتظاهر بالدعوة إلى تهدئة ، ثم تطور الموقف إلى إلغاء اجتماع قمة رباعي كان مقررا عقده في "عمان" ، بعد غضب عربى عارم أعقب مجزرة المستشفى "المعمداني" ، وزيادة موقف الأنظمة حرجا ، وافتضاح المشاركة الأمريكية المباشرة فى جرائم ومذابح كيان الاحتلال .
وقد لا يخفى على أحد ، أن موقف واشنطن اليوم ، ليس وليد المصادفة ولا جريان الحوادث التلقائي ، بل هو في الجوهر متصل بالحقيقة القديمة الجديدة ، وهي أن الحركة الصهيونية حركة غربية ، وأن أساطيرها المكذوبة عن النقاء العرقي اليهودي ، وتصوير الدين كحركة قومية ، وتهجيرها لليهود إلى فلسطين ، وإقامة كيانها الاستيطاني الإحلالي ، كل ذلك وغيره ، كان ولا يزال على علاقة "عروة وثقى" مع الامبريالية الغربية ، ولا علاقة له باليهودية كدين ، بل هو استثمار لنزعة دينية فى إقامة كيان استيطاني ، فلا علاقة ليهود العصر بيهود "التوراة "، وأغلبهم جاءوا في الأصل من شرق أوروبا ، ومن "مملكة الخزر" في العصور الوسطى ، التي "تهود" ملكها فتهود شعبها ، بينما لا تبشير ولا دعوة ولا جواز لتهود في أصل الاعتقاد اليهودي ، وقد كانت نزعة "معاداة اليهود" في الغرب هي العنصر الأساسي في دعم الحركة الصهيونية ، ونقل اليهود إلى فلسطين لتوظيفهم في المهمة الاستعمارية ، والشروح هنا قد تطول ، لكن العناوين ظاهرة ، من دعوة "نابليون" ـ الفرنسي ـ في حملته على مصر والمشرق العربى ، إلى إقامة كيان "يهودي" في فلسطين بالذات ، وبعد دعوة "نابليون" بقرن كامل ، كانت المساعي ذاتها تتطور ، وتنتقل رايتها من الفرنسيين إلى البريطانيين ، فبعد عشر سنوات من مؤتمر "بازل" الصهيونى الأول عام 1897 ، كانت بريطانيا تستضيف مؤتمرا لافتا ، صدرت عنه عام 1907 وثيقة "كامبل ـ بنرمان" ، التي خلصت إلى ضرورة زرع كيان غربى يفصل مشرق العالم العربى عن مغربه ، وبهدف ضمان التفتيت الدائم ، ومنع أي توحيد ونهوض عربى ، وبعدها بعشر سنوات أخرى ، أصدرت بريطانيا "العظمى وقتها" وعد بلفور عام 1917 ، وكان اللورد "بلفور" معاديا للسامية ولليهود بامتياز ، وكانت بريطانيا تحتل مصر وفلسطين وغيرها ، ولعبت الدور الحاسم في إقامة كيان الاحتلال فيما بعد ، وفي تقوية الأذرع العسكرية للحركة الصهيونية ، وزيادة عديد العصابات الصهيونية المسلحة إلى نحو 65 ألفا ، هزموا تدخلات الجيوش العربية في حرب 1948 ، وكان عددها الإجمالي نحو نصف عدد الجيوش الصهيونية ، وبالتوازي كان التهجير الواسع للفلسطينيين في النكبة الأولى ، ومع تواري أدوار بريطانيا وفرنسا إلى الظل ، وهزيمتهما مع "إسرائيل" في "حرب السويس" 1956 ، زحف الدور الأمريكي كحام جوهري لكيان الاحتلال ، مع مقدمات وحوادث حرب 1967 ، التي لم تنجح "إسرائيل" في تحقيق نصر عسكرى بعدها أبدا ، وزاد التصاقها بالحماية الأمريكية المباشرة ، ودونما فارق يذكر بين مواقف الجمهوريين أو الديمقراطيين في واشنطن ، فقد يمكنك أن تذكر عشرات الفوارق بين "بايدن" وسلفه الجمهورى "دونالد ترامب" ، لكن ما يجمع النقيضين هو دعم الكيان الإسرائيلي ، وهذه عقيدة جوهرية للتيار الرئيسي في الغرب كله ، مع التسليم طبعا بوجود هوامش لتيارات إنسانية في الغرب الذى يكرهنا ، تبدو أميل لأخذ بعض الحق الفلسطيني في الحساب ، وتبدي تعاطفا في مظاهرات غضب الجاليات الفلسطينية والعربية في عواصم الغرب ، ولكن مع إعطاء أولوية ظاهرة لما يسمونه حق إسرائيل في الوجود ، وقد لا ندعو إلى إغفال مساعي شرح الحق الفلسطيني لشعوب الغرب ، ولكن من دون الإغراق في التفاؤل بكسب واسع هناك ، فالنزعة العنصرية متجذرة في الثقافة الغربية ، والغرب بثقافته البراجماتية الغلابة ، لا يعرف التمييز بين الحق والباطل ، بل بين النافع والضار ، وليس بوسعه أن يسلم بحق ، إلا إذا دميت أصابعه ، وتعرضت مصالحه للضرر ، وهو ما يحدث بعضه اليوم ، مع نهوض الشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه التاريخية ، وتطور انتفاضته الجامعة من "قيامة القدس" إلى "طوفان الأقصى" ، وفيضانات الدم الفلسطيني الذى يغرق ويكسر سيف الغرب و"إسرائيله" .
Kandel2002@hotmail.com
|