أ. د. أحمد قايد الصايدي - أمام عملية الإبادة الجماعية غير المسبوقة في التاريخ، التي تجري حالياً في قطاع غزة، والتي يحاول بها الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة استئصال سكان هذا القطاع، تمهيداً لإعادة توطين الفلسطينيين جميعهم خارج وطنهم فلسطين، والاستحواذ عليها كاملة، أمام هذه العملية، ولكي نفهم أهدافها البعيدة، لابد من استحضار مشروع المستشرق الصهيوني برنارد لويس لتفتيت الوطن العربي مجدداً، الذي تعمل الإدارات الأمريكية المتعاقبة على تنفيذه، منذ اعتماده في الكونجرس الأمريكي بالإجماع، في عام 1983م.
فمن خلال استحضار هذا المشروع يمكننا أن نفسر ما عشناه من كوارث ومن حروب، نشهد الآن أكثرها وحشية وقسوة وسقوطاً أخلاقياً، يشنها الكيان الصهيوني الغاصب ومن ورائه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، على شعبنا العربي في فلسطين، كما يمكننا أن نفهم السياسات الأمريكية تجاه الوطن العربي، الهادفة إلى تقسيم كل قطر عربي على حدة، إلى عدة أقاليم، لكل إقليم حكومته وبرلمانه، تحت عنوان دولة اتحادية (فيدرالية)، تمهد لاستنبات دويلات قزمة، تحل في كل قطر عربي محل الدولة القطرية الحالية، باستخدام كل إقليم (حق تقرير المصير)، بإيعاز خارجي، وبتحرك من سلطته التشريعية والتنفيذية، ليصبح الإقليم دويلة مستقلة هزيلة، لا تملك مقومات البقاء دون وصاية خارجية. وقد بدأت محاولة تطبيق هذه الوصفة في العراق، وتعثرت حتى الآن.. ويجرى الترويج لها في أقطار عربية أخرى، ومنها السودان الذي نجحت فيه جزئياً في عام 2011م.
وسأورد هنا عرضاً للمشروع، كتبه الدكتور فيصل الغويين، عضو رابطة الكتّاب الأردنيين، ولكن قبل إيراده سأطرح بعض التساؤلات، التي قد تخطر في بال من يقرأه:
أليست مرحلة الفوضى الخلاقة (انهيار مؤسسات الدولة ونشوب حروب داخلية في كل قطر من الأقطار العربية) مرحلة تمهيدية، لرسم خارطة التقسيم الجديد في الوطن العربي على الأرض أولاً، ثم فرض هذا التقسيم كأمر واقع وحل مقبول لإنهاء الحروب الداخلية، التي خططت لها الولايات المتحدة الأمريكية وأمَّنت تمويلها من مصادر معظمها عربية وإقليمية، وانزلقت إليها مكونات محلية مسلحة، سهلت للأمريكيين مهمتهم وخدمت مشروعهم، وهي تحسب أنها تنفذ مشروعها الخاص؟
ألم تؤد الحروب الداخلية، بما رافقتها من اصطفافات دينية طائفية عرقية مناطقية، ألم تؤد إلى رسم خارطة على الأرض، نراها ماثلة أمامنا اليوم في عدد من الأقطار العربية، تتوزعها القوى المحلية المتحاربة، الممثلة لهذه الاصطفافات، تهيئةً لمشروع التقسيم الذي سيُفرض كأمر واقع، يأخذ لاحقاً شكله القانوني المعترف به دولياً؟
ألا يندرج ضمن السياق العام لهذا المخطط ما نشاهده اليوم في غزة، من (هولكوست) إجرامي غير مسبوق في التاريخ، يُباد فيه سكانها المدنيون وتُقبر فيه أسر بكاملها تحت أنقاض منازلها وتقصف مرافقها الخدمية، ومدارسها ومستشفياتها التي يتجمع فيها آلاف من النازحين، وتقصف مخابزها وخزانات مياهها والألواح الشمسية على سطوح مستشفياتها، وتُسوى أحياؤها السكنية بالأرض، وتحاصر حصاراً كاملاً، يُمنع عنها فيه حتى الماء والكهرباء والمواد الغذائية والعلاجية، ويُلوث فيها الهواء، بدخان البارود والحرائق والقنابل الفوسفورية، بدعم سياسي وعسكري ومالي وإعلامي غير محدود وغير مشروط من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وأتباعها، ألا يندرج هذا كله في سياق مشروع التفتيت، ورسم الخارطة الجديدة، التي يتطلب نجاحها القضاء على كل بؤر المقاومة المشروعة للشعب العربي، حيثما وجدت، وإخلاء فلسطين من أهلها، وتمكين الكيان الصهيوني من الاستحواذ عليها كاملة، والتحكم بالدويلات القزمة التي ستنتج عن تفكيك الدول العربية الحالية، بحيث يصبح هذا الكيان الغاصب أقدر على أداء دوره التخريبي في الوطن العربي، دون أي عوائق؟
ألا يستحق كل هذا شيئاً من التفكير، ومراجعة ما حدث خلال العقود الماضية، وحتى الآن، على ضوء مشروع (الشرق الأوسط الجديد)، ثم تقرير ما إذا كانت النكبات التي توالت علينا، مجرد أحداث التقت عواملها ومسبباتها بفعل الصدفة، أم أن ما وصلنا إليه، وما سوف نصل إليه في المستقبل أحداث مخطط لها بقدر عالٍ من الدقة، المستندة إلى دراسات علمية، أنجزها علماء وباحثون متخصصون، ووضعوها بين أيدي الأجهزة السياسية والأمنية والعسكرية المعنية في الغرب الاستعماري، التي استغلت غفلتنا واستعدادنا لتبني مشاريع أعدائنا، وكأنها مشاريعنا الخاصة؟
والسؤال الأهم، هو: هل أصبحت هذه المخططات قدراً لا فكاك منه، أم أنها مجرد مخططات وضعها بشر، لخدمة مصالحهم، ويمكننا مقاومتها وإفشالها، إذا أدركنا حجم التلاعب الذي مارسته الدوائر الاستعمارية بنا، وإذا صحونا وتنبهنا وأوقفنا معاركنا الجانبية وخصوماتنا العبثية وواجهنا أعداءنا الحقيقيين، الذين تشكل مصالحهم وسياساتهم ومؤامراتهم خطراً وجودياً علينا جميعاً، وأعدنا تأهيل أحزابنا، قيادة وفكراً وتنظيماً وممارسة، لتضطلع بدورها التاريخي، في حشد وتعبئة وقيادة جماهير شعبنا العربي، وعملنا على بناء دولتنا الحديثة الواحدة الموحدة، التي لا ينفرد بها أحد دون غيره، بل تقام على التوافق فيما بيننا، وعلى أسس الشراكة الوطنية والمواطنة المتساوية، والتبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الانتخابات، الدولة القوية القادرة على الدفاع عن وطننا وشعبنا وتحقيق نهضتنا الشاملة، وإجبار العالم على احترام سيادتنا واستقلالنا وعدم الاستخفاف بأرواحنا ودمائنا وحقوقنا، والتعامل معنا كأنداد وشركاء، لا كأتباع أو كعبيد؟ إنه سؤال يتعلق بوجودنا، ويستحق أن يُطرح، للتفكير والتأمل، وتحديد خياراتنا الصحيحة. |