السيد شبل - لم تُمثّل عملية طوفان الأقصى قفزة للأمام في مستوى العمليات النوعيّة للمقاومة الفلسطينية داخل قطاع غزة وخارجه، فقط، بل مثّلت فرصة لمختلف العواصم العربية، حتى تُراجع حساباتها، فتنتهز أجواء المدّ والصعود العربي بعد سنوات من الجزر والتراجع، لكي تؤدي أدوراً إقليمية ودولية أكبر بما يتلاءم مع مكانتها وقدراتها وثرواتها.
إن ما فعلته فصائل المقاومة في الـ 7 من أكتوبر كان كفيلاً بإعادة ثقة الشعب العربي بذاته، وكان يُفترض بالأنظمة أن تلتقط هذا الخيط وتؤسّس عليه منهجاً سياسياً شاملاً يُعبّد الطريق نحو مستقبل أكثر تحرّراً من الإملاءات الأميركية، وأقلّ خضوعاً لأيّ التزامات تتعلّق بملف التطبيع مع العدو الإسرائيلي.
في الماضي القريب كان الحديث يدور في الشارع العربي حول أن الاحتجاجات الشعبية المناهضة للهيمنة الأميركية كثيراً ما ساعدت الأنظمة الرسمية على عصيان أوامر البيت الأبيض المتتالية. إذ كان "الزعماء العرب" يتخذون من مواقف شعوبهم الرافضة للتدخلات الغربية عموماً ذريعةً للامتناع عن تنفيذ هذا "الإملاء العسكري الأميركي" أو تلك "النصيحة الاقتصادية".
ظنّ البعض أن اشتعال نار المقاومة في الأراضي المحتلة، وما منحه ذلك من روح إيجابية للشارع العربي الخامد منذ أحداث "الربيع العربي"، سيكون بمثابة قبلة الحياة للعديد من الأنظمة لكي تتخذ مواقف أكثر جرأة وقدرة على تحدي منظومة الهيمنة الدولية، خاصة بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية في دول كبرى مثل مصر، كنتيجة مباشرة لتنفيذ إملاءات مؤسسات المال المنبثقة عن المنظومة ذاتها.. لكن الفرصة أُهدرت كما المعتاد.
ما من شك أن الإدارة الأميركية كانت على وعي بتبعات زلزال "طوفان الأقصى" خارج فلسطين، ورصدت وسائل الإعلام الغربية تلك الروح المعنوية العربية التي وصلت حدّ السماء في الساعات الأولى التي تلت إعلان المقاومة عن عمليتها، وربما هذا هو أحد أسباب إسراف آلة الحرب الصهيونية في عدوانها على قطاع غزة، كي يُشطب هذا الإحساس العالي بالكبرياء والتباهي ويحلّ محلّه إحساس بالحسرة والندم.
القاهرة.. وفرصة التخلّص من قيود "كامب ديفيد"
في القاهرة، على سبيل المثال، كان المصريون يتبادلون التهاني بعد نجاح عملية "طوفان الأقصى"، وبين طرفة عين وانتباهها ظهرت الأعلام الفلسطينية في الشوارع، وبات الكلّ يتناقل أخبار المقاومة وانتصارها، وانتشرت دعوات المقاطعة كالنار في الهشيم، مسبّبة خسائر كبيرة للشركات التي تمّت مقاطعتها، ثم ازداد معدّل المتابعة بالتزامن مع الدعوات الإسرائيلية لتهجير سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء، وهو مطلب صهيوني قديم، جدّدته حكومة بنيامين نتنياهو.
تدرك عقلية الحرب الصهيونية أنّ موازين القوى العسكرية يمكن أن تجعلها قادرة على غلبة الجيوش، ولكنها لا تملك الاستيلاء على الأراضي أو استيطانها ما دامت عامرة بالسكان ومُسلّحة بالمقاومة، والدليل انسحاب "جيش" الاحتلال من جنوب لبنان عام 2000 ومن قطاع غزة في 2005، وخسائره بفضل تضحيات أهالي مدينة السويس في 1973، وقبلهم أبناء بورسعيد في 1956م..
لذا يدرك قادة الاحتلال أنهم لن يحقّقوا انتصارهم المنشود باستئصال شأفة المقاومة من القطاع المحاصر منذ سنوات، طالما بقي الـ 2.3 مليون غزّاوي على أراضيهم. من هنا كانت الدعوى لتهجيرهم، لأنّ السكان هم خط الدفاع الحاسم والأخير عن الأوطان.
مخططات نتنياهو وحكومته، فتحت الباب على مصراعيه داخل مصر للحديث عن أمرين:
أولاً، ضرورة تعمير سيناء وزيادة عدد سكانها، وهو أمر قد تعطّل لعقود بسبب القيود الأمنية الملحقة باتفاقية كامب ديفيد، والتي تسبّبت في تجريد ثلثي شبه الجزيرة من السلاح والقوات، ممّا حرمها من الاستقرار والتنمية، وجعل بعض مناطقها ذات الكثافة السكانية العالية نسبياً في الشمال الشرقي بيئة خصبة لنمو بعض الحركات التكفيرية التي هدّدت الأمن القومي للبلاد في سنوات ما بعد 2011م..
كذلك فالمشكلة الأكبر المتعلقة بفراغ سيناء من العمران، هي أنها تحقق حلماً إسرائيلياً. فالاحتلال يعتبر سيناء منذ عقود طويلة منطقة عازلة بينه وبين مصر، فلا يريد أن يرى المصريين يسكنون بكثافة على "حدوده" الغربية، لأنّ هذا يمثّل تهديداً أمنياً وجيو سياسياً لبقاء الكيان.
ويمكن في هذا السياق العودة إلى تصريحات، رئيس حكومة الاحتلال الأسبق مناحيم بيغين، عام 1979، حين سُئل عن الخروج من سيناء، فأجاب "أنهم مضطرون إلى ذلك بسبب عدم توافر الطاقة البشرية القادرة على الاحتفاظ بهذه المساحة المترامية الأطراف، فسيناء تحتاج إلى 3 ملايين يهودي على الأقل لاستيطانها".
علماً بأن عدد سكان شبه جزيرة سيناء المصريين، بمحافظتَيها الشمالية والجنوبية ما زال أقلّ من هذا العدد بكثير، إذ يبلغ نحو 600 ألف نسمة، بحسب تعداد عام 2018م..
ثانياً، العمل على اتخاذ مواقف أقوى ضد "إسرائيل". إذ بات من المؤكد لعموم المصريين، بما يشمل النسبة البسيطة التي خضعت لدعاية المطبّعين، أنه من المستحيل إقامة "سلام دائم" مع العدو الإسرائيلي، فبمجرد انطلاق العمليات العسكرية العدوانية ضد قطاع غزة، حتى باتت:
أ - بعض الأراضي المصرية الحدودية هدفاً عسكرياً.
ب - حشدت "إسرائيل" أنصارها الغربيين للضغط على الدولة المصرية للقبول بعملية التهجير، وازدادت تلك الضغوط بالتزامن مع فشل الاجتياح البري الإسرائيلي في تحقيق مآربه.
هنا تنامت مطالبات القوى الوطنية المصرية بضرورة انتهاز الفرصة لتحرير سيناء من قيود كامب ديفيد. فإن كان قد تحقّق قدر من ذلك في سياق الحرب على التنظيمات الإرهابية، وتمدّدت الآليات العسكرية المصرية إلى المنطقة ج (33 كم غرب الشريط الحدودي مع فلسطين التاريخية)، وهي التي كان محظوراً دخولها، فقد باتت الفرصة مواتية بشكل كامل للتخلص من كل ما يتعلق بالشق الأمني لمعاهدة كامل ديفيد، كخطوة أوليّة بطبيعة الحال.
كذلك دعت القوى السياسية إلى فتح معبر رفح بوصفه معبراً فلسطينياً مصرياً، وسحب السفير المصري من "تل أبيب"، أما المطلب الأبرز فكان أن تنتهز الدولة المصرية الفرصة للوثوب إلى المجال الإقليمي والدولي، متكئة على دورها المحوري في كل ما يتعلق بفلسطين وقضيتها.
إن الرابط بين مصر وفلسطين يتخطّى مسألتي العروبة والدين، ففلسطين كانت جزءاً من الدولة المصرية وتابعة لإدارتها في كلّ مراحل قوتها منذ عهد الفراعنة وحتى دولة المماليك، وكان فقدان فلسطين هو مقدمة لانحلال عقد الأقاليم المصرية ذاتها في وادي النيل أو الصعيد.
لقد منح "طوفان الأقصى"، وما لحق به من أحداث الفرصة للقاهرة للعودة إلى الساحة الإقليمية والدولية من أوسع أبوابها، ولعلّ "قمة القاهرة للسلام" التي دعت إليها الإدارة المصرية في الثلث الأخير من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كانت إحدى المحاولات في هذا السياق.
لكنّ كلّ التحركات بقيت أقل من المتوقّع، لأنها محكومة بسقف الدبلوماسية المصرية طوال العقود الأربعة الماضية، إذ تتجنّب التحدي لقواعد "السياسة الدولية" لأبعد حدّ ممكن، وتتحاشى الصدام مع البيت الأبيض كأنها نهاية العالم بالنسبة إليها.
العرب لم يتخلّصوا من عُقدة الاستعمار الأوروبي بعد!
رغم تحرّر الأقطار العربية كافة من الاستعمار الأوروبي الذي دخل إلى منطقة الشرق الأوسط على مراحل منذ القرن الثامن عشر، إلّا أن العقول لم تتحرّر بعد، وهي في أحسن الأحوال تفكّر وفقاً لظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين اختطفت واشنطن راية الرجل الأبيض من التاج البريطاني، ثم هيمنت على العالم منفردة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في مقتبل تسعينيات القرن العشرين.
إن ما يجري على أرض غزة اليوم لا ينفصل بأي حال عن الصراع الدولي القائم بين "عالمٍ قديم" طَعَن في السن وشاخ، وبين "عالمٍ جديد" ينمو ويزدهر. إذ تدخل البشرية حقبة جديدة، لا يكون فيها الأميركي سيّداً على مقدّرات الكوكب، بل تنازعه في أمره معسكرات الشرق والجنوب، وإن ما تفعله المقاومة الفلسطينية اليوم ليس إلّا حلقة في هذا الصراع، الذي سيُفضي إلى كسر شوكة الأميركيين والأوروبيين، والحيلولة دون وجودهم خارج أراضيهم، بما يعني تفكيك هذا الكيان المغروس غرساً لا منطقياً في الأراضي العربية.
لو أدركت الأنظمة العربية حجم التفاعلات التي تجري في العالم من أوكرانيا (في شرق أوروبا) إلى غزة (على الساحل الشرقي للمتوسط)، لانخرطت بكل قوتها لتحجز لنفسها مكاناً في العالم الجديد، وليس لها بوابة إلّا فلسطين، لتعبر منها فتؤدي دورها في الإطاحة بالعالم القديم ودقّ أحد أعمدته المتمثلة في "إسرائيل".
في هذا السياق، يمكن فهم الدوافع التي تحرّك أنظمة أميركا الجنوبية باتجاه قطع أو تجميد العلاقة مع "تل أبيب"، فليست هي المشاعر الإنسانية الفاضلة وحدها، بل هناك وعي عقلاني بأن الحرب ضد أهالي غزة، هي حرب أميركية بالأساس، وأن واشنطن هنا لا تدافع عن "تل أبيب" بحدّ ذاتها، بقدر ما تدافع عن وجودها نفسه في منطقة الشرق الأوسط، وأنها إذا خسرت هذا الموقع الاستراتيجي الهام، فإن هذا يعني أن موعد إهالة التراب على "عالمها القديم" قد حان.
يؤكد الخبراء الدوليون أن أشجار المنطقة العربية السياسية باتت مثمرة والأغصان قد مالت من ثقل حمولتها، لكن الأنظمة ممتنعة عن قطف الثمار لأنها تُحجم عن النظر إلى الأعلى واعتادت النظر إلى الأسفل، وهذا بحدّ ذاته يُحيل إلى قضية "الاستعمار النفسي واحتلال العقول"، وحجم الجهد المطلوب للتخلص منه.
بكل الأحوال، فالعرب أمامهم المجال لإنجاز وحدتهم المؤجلة، لأنّ هذا بدوره يمنع استغلالهم من قبل القوى الدوليّة، كما أن ثروات العرب النفطية الضخمة تفتح أمامهم المجال الواسع للتعاون مع الآخرين من منطلق النديّة والمنفعة المتبادلة، لا كما هو الحال مع المعسكر الغربي الذي عطّل مسيرة التنمية العربية لعقود، فأفقر دولاً عربية، وأغرق أخرى في النزعات الاستهلاكية، وفي الحالتين باتت مدن وقرى العرب خالية من المصنع والمزرعة، تعتاش على إنتاج الغير.
الأزمة أن الأحلام العربية كافة مرهونة بالإرادة الصادقة لدى الأنظمة التي تدير أمور الشعوب، كما أنه ما من سبيل لتحقيق أي شيء من هذه الطموحات سوى بالعمل على التحرّر من التبعية للبيت الأبيض، وهذا بدوره يضع كلّ الأنظمة العربية على النقيض مع "إسرائيل"، التي لا تحتل الأراضي العربية فقط، بل هي وكيل واشنطن لتخريب أي مشاريع للتنمية في المنطقة.
لهذا كانت عملية "طوفان الأقصى" بما مثّلته من شرخ في جدار الأمن الإسرائيلي، وصفعة على وجه ساسة الولايات المتحدة كافة، وبقدرتها في إعادة إحياء القضية الفلسطينية والكشف عن بُعدها الأُممي، هي الفرصة كي تعيد الأنظمة العربية تعريف ذاتها والوقوف على ما يمكن أن تضيفه إلى هذا العالم الجديد، الذي سبقتهم إليه المقاومة الفلسطينية ومحورها، في الحقيقة، لكن تلك الأنظمة أبت التفاعل بإيجابية مع هذا الحدث، وواصلت تشبّثها بعالم "السيد الأميركي" الذي بات في طور التعفّن.
|