إبراهيم ناصر الجرفي - إن الحديث عن منظمة الأمم المتحدة التي تم إنشاؤها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية يتطلب التمييز بين الجانب الأخلاقي والقانوني وبين الجانب المادي والسياسي، ففي الجانب الأول تمتلك هذه المنظمة الكثير من القوانين والدساتير والاتفاقيات واللوائح والبرامج والبروتوكولات التي تهتم بشكل كبير جداً بحقوق وحريات الإنسان والتي تؤسس لمجتمع دولي فاضل يسوده العدل والمساواة والتعايش السلمي بين الشعوب، ولن أبالغ إذا قلت بأن الجانب الأخلاقي والقيمي لمنظمة الأمم المتحدة غاية في المثالية والإيجابية ولو تم تجسيده على أرض الواقع والعمل به بالشكل الصحيح لكانت البشرية تنعم اليوم بالأمن والسلم الدوليين، ولكن للأسف الشديد يظل الجانب الأخلاقي مجرد قوانين مكتوبة ومحصورة نظرياً بينما التطبيق في وادٍ آخر، وهذا هو سبب الحروب والصراعات والتوترات الدائرة اليوم في العديد من الدول، وسبب التنافس السلبي والعدائي في مجال العلاقات الدولية ..!!
وكل ذلك هو بسبب السلبية في الجانب العملي والذي تتلاشى فيه كل صور المثالية نتيجة خضوعه للمصالح السياسية، ففي سبيل المصالح يتم انتهاك كل القوانين الدولية وكل الحقوق والحريات الإنسانية وخصوصاً مصالح الدول العظمى التي تمتلك حق النقض الفيتو، وهنا يكمن الخلل الكبير في عمل منظمة الأمم المتحدة، حيث أصبحت المصالح السياسية والاقتصادية هي التي تحكم تحركاتها وقراراتها وأفعالها على الأرض، وأصبح الجانب الإنساني والأخلاقي مجرد ديكور يغطي سَوْءَة هذه المنظمة التي لم تنتصر لمظلوم قط، ولم تنجح في حل قضية قط، فكل قراراتها وخصوصاً القرارات الملزمة الصادرة عن مجلس الأمن هي عبارة عن قرارات مُسيَّسة منزوع منها القيم الأخلاقية والإنسانية، وتُراعى فيها مصالح الدول العظمى السياسية والاقتصادية بالدرجة الأولى، ومن ثم مصالح حلفائها حول العالم ..!!
فكم حصلت من إبادات جماعية ومن جرائم حرب ومن انتهاكات وفظائع ولم يصدر بشأنها قرارات وعقوبات أو حتى إدانات لأنه لا مصلحة للدول العظمى في عمل ذلك بل قد يكون من مارس تلك الجرائم مدعوم من دولة أو من عدد من الدول العظمى نتيجة ارتباطه بمصالح معها فلا تتردد في نقض أي قرار ضده وحتى ولو صدر قرار دولي لمصلحة المظلوم فأنه يظل حبراً على ورق- (القضية الفلسطينية إنموذجاً)- لعدم وجود قوة دولية تقوم بتنفيذه أو نظراً لوجود قوة دولية عظمى تدعم الطرف الآخر لذلك أصبحت قرارات وتحركات وسياسات منظمة الأمم المتحدة تحكمها المصالح السياسية والاقتصادية في المقام الأول بينما يأتي الجانب القانوني والأخلاقي والإنساني في آخر اهتماماتها ..!!
وهناك ما هو أسوأ من ذلك فلقد تحول الموظفون التابعون للأمم المتحدة إلى أدوات للابتزاز والنهب والتكسب غير المشروع عن طريق رفع التقارير الكاذبة والمغايرة للواقع خدمةً لهذا الطرف أو ذاك ما يترتب عليه إطالة أمد الصراع والخلاف أطول فترة ممكنة، والدليل على ذلك أننا لم نشاهد الأمم المتحدة قد نجحت في حل وحسم قضية واحدة فكل القضايا المعروضة عليها معلقة ومفتوحة..
إن هيمنت الجانب المادي (المصالح السياسية والاقتصادية) على تحركات وقرارات الأمم المتحدة على حساب تراجع وضعف الجانب القانوني والأخلاقي والإنساني قد أثر بشكل سلبي على مكانة الأمم المتحدة وأفقدها الكثير من المصداقية والموضوعية كما أن الثقة بها وبقراراتها وآليات عملها ومخرجاتها قد بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً أمام الشعوب والمجتمعات الإنسانية ..!!
وكم هو محزن ومؤلم أن تتحول الأمم المتحدة من المثالية إلى المادية، ومن الإيجابية إلى السلبية، ومن الخير إلى الشر، وأن تنحرف عن أهدافها ومبادئها العامة والشاملة خدمةً لمصالح سياسية واقتصادية ضيقة ومحدودة، وهكذا أمر وارد على كل المستويات، فحين يتم تسييس الشيء أياً كان ديناً أو مذهباً أو منظمة.. الخ، من الطبيعي أن يفقد قيمته الحقيقية وينحرف عن أهدافه المرسومة وتتحكم فيه المصالح السياسية والاقتصادية، ولن أبالغ إذا قلت بأن الأمم المتحدة قد انحرفت عن أهدافها ومبادئها وأصبحت اليوم مجرد أداة تسلطية بيد الدول الخمس العظمى تحقق من خلالها مصالحها السياسية والاقتصادية بغض النظر عن النتائج السلبية والكارثية لمثل هكذا سلوكيات أنانية على العلاقات الدولية وعلى مستقبل الجنس البشري على هذا الكوكب ..
|