الميثاق نت -

الثلاثاء, 06-فبراير-2024
أحمد‮ ‬عز‮ ‬الدين -
الحقيقة البَدَهِية الأولى ، أنه مهما توسّعت أو تعمّقت أقواس النيران فوق إحداثيات الإقليم ، فستظل غزة هي القاعدة الأساسية الحاكمة لمستقبل الاستراتيجية الأمريكية ولمنتوجها النهائي ، فوق كافة محاوره ، فغزة ليست القلب الدامي أو المحتقن ، بقدر كونها القلب الملتهب الذي يدفع دم الغضب والرفض والمقاومة ، فيما تبقى من شرايينه النابضة وأطرافه الحية ، ولذلك ليس من قبيل المبالغة القول إن غزة لا تقاوم نيابةً عن نفسها ، وإنما تقاتل وتقاوم فوق منحنى بالغ الوعورة والخطورة ، يتحدد عنده المصير القومي والإقليمي كله..
وإذا كان صمود المقاومة هو العنصر الحاكم في النهاية ، فقد سبق وأن أضفت إليه عنصرين أساسيين : الأول هو عنصر الردع ، والثاني هو عنصر الوقت ، وإذا كان عنصر الوقت لا يزال حتى الآن رغم كل عمليات الهدم والقتل والإبادة والإزاحة ، قابلاً للاستثمار في يد المقاومة، فإن‮ ‬عنصر‮ ‬الردع‮ ‬قد‮ ‬دخلت‮ ‬عليه‮ ‬متغيرات‮ ‬جوهرية‮ ‬تستحق‮ ‬المراجعة‮ ‬،‮ ‬وهي‮ ‬بذاتها‮ ‬تمثل‮ ‬مؤشرات‮ ‬بالغة‮ ‬الوضوح‮ ‬على‮ ‬أخطاء‮ ‬فادحة‮ ‬في‮ ‬الحسابات‮ ‬والتقديرات‮ ‬الاستراتيجية‮ ‬الأمريكية‮ ..‬
لقد كثفّت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في البحر الأحمر لتحقيق عدة أهداف ، الأول هو تحويل القطاع الشمالي من البحر الأحمر على قاعدة وثوب إلى المحيط الهندي ، والثاني الإمساك بمفتاح وقفل باب المندب ، لإحداث تأثير مباشر على قناة السويس ، والثالث تشكيل قوة حماية بحرية وجوية ، سواءً لإسرائيل أو لهرمز أو لدول الخليج ، أو القرن الأفريقي وامتداداته حتى أثيوبيا ومنابع النيل وشرق السودان ، وهي منطقة تشكل خريطة عملت أمريكا على تهيئتها وإعادة صياغة أوضاعها على امتداد أكثر من عشر سنوات..
لكن الولايات المتحدة وضعت وحداتها البحرية في البحر الأحمر بحسابات تقدير موقف غير صحيحة لعدة أسباب ، الأول بالمخالفة لمبدأ عام في السيطرة والمعارك البحرية ، وهو أن المياه المفتوحة تتحكم في المياه المغلقة، أي أن المحيط الهندي يتحكم في البحر الأحمر وليس العكس.. الثاني أنه ليس هناك قوة على جانبي البحر الأحمر تمتلك القدرة أو الجرأة على تحدّي نظرية الردع التي فرضتها على الإقليم وعلى البحر الأحمر وتخومه على الجانبين.. الثالث أن سقف معركة الإبادة والتهجير في غزة لن يكون طويلاً ، وإنما سيمتد لأسابيع ، بعدها يمكن للجيش الإسرائيلي بقواته الجوية والبحرية ، أن يضيف طبقة حماية جديدة إلى نظرية الردع الأمريكية.. الرابع أن لديها إضافة إلى الوحدات الهجومية البحرية ، قاعدة في جيبوتي يمكن عند الحاجة أن تتيح نصب منصات صواريخ مضادة.. الخامس أن تمكين أثيوبيا من سعيها للحصول على قاعدة‮ ‬عسكرية‮ ‬في‮ ‬الصومال‮ ‬فوق‮ ‬إحداثيات‮ ‬المدخل‮ ‬الشمالي‮ ‬للبحر‮ ‬الأحمر‮ ‬،‮ ‬كما‮ ‬تُشكّل‮ ‬شُرفة‮ ‬على‮ ‬المحيط‮ ‬الهندي‮ ‬،‮ ‬سيكون‮ ‬عاملا‮ ‬مؤثرا‮ ‬في‮ ‬فرض‮ ‬سيطرة‮ ‬وردع‮ ‬إضافيين‮..‬
ولقد كانت النتيجة النهائية لعدم صحة هذه العوامل الأساسية التي انبنى عليها تقدير الموقف هي أن أمريكا حشرت قواتها البحرية في محيط مائي ضيق ، وأن نقاط الضعف في وجودها العسكري البحري على هذا النحو أصبح واضحا ومكشوفا بشكل صارخ..
وإذا كانت حسابات الموقف بالنسبة للسقف الزمني للعمليات العسكرية في غزة ، قد تجاوز المدى الزمني المقدر ، دون أن تبدو نهايته بفضل ما أظهرته المقاومة الفلسطينية ، من إرادة قتال صُلبة ومن إبداع تكتيكي ميداني في مواجهة الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، وعدم تمكينها من تحقيق أهدافها، إضافة إلى ما ترتَّب على معركة الإسناد التي قام ويقوم بها حزب الله شمالاً بضربات دقيقة تزداد عمقا وتأثيرا كل يوم، فإن جيبوتي رفضت نصب صواريخ في القاعدة الأمريكية على أراضيها والتي تبعد 6 كلم فقط عن قاعدة عسكرية صينية ، فضلاً عن وجود قواعد أخرى بريطانية وفرنسية بل ويابانية ، فقد نجح السعي المصري مرحلياً في إحباط محاولة أثيوبيا الحصول على قاعدة عسكرية في الصومال ، ولهذا عمدت إيران إلى استثمار الخطأ الاستراتيجي لحشد القوات الأمريكي في المياه المغلقة، بتوسيع أعمالها العسكرية في المحيط الهندي ، سواءً بضرب سفينتين إسرائيليتين في المياه الدولية ، تكتمت إسرائيل عليهما ، أو بضرب (جيش العدل) المصنف إرهابياً على الحدود الباكستانية بطائرة مسيرة ، في نفس توقيت توجيه ضربة إلى الحزب الإسلامي التركستاني في إدلب بأربعة صواريخ من طراز ( كاسر خيبر ) الذي يمثل الجيل الثالث من ( الفتّاح ) ويصل مداه إلى 1450كلم ( علماً بأن المسافة بين شمال غرب إيران وتل أبيب وحيفا وديمونة 1100 كلم ).. لقد دفعت نظرية الردع الأمريكية ثمنا باهظا لحشر قوتها البحرية في البحر الأحمر ، وقد تكفلت ضربات الجيش اليمني بإلحاق إصابات وخسائر بها ، أكثر مما ألحقته من إصابات وخسائر سواءً بالوحدات العسكرية الأمريكية أو السفن التجارية الإسرائيلية أو المتوجهة إليها.. غير أن المدهش في ذلك أن الدراسات والوثائق الإسرائيلية كانت تشير بوضوح إلى إمكانية فتح جبهة اليمن في مواجهة إسرائيل ، فهناك جانب من دراسة لمركز الأمن القومي الإسرائيلي ، تتضمن نصاً : (إن حزب الله يخدع إسرائيل بتسليط الضوء على الجبهة الشمالية ، لكن إسرائيل تأخذ بعين الاعتبار إمكانية فتح جبهة من الشمال بصواريخ حوثية).. وهناك خطاب علني واضح لإيزنجوت رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق أضاف فيه‮ ‬إلى‮ ‬نظرية‮ ‬الأمن‮ ‬الإسرائيلية‮ ‬نطاقاً‮ ‬جديداً‮ ‬أطلق‮ ‬عليه‮ ( ‬النطاق‮ ‬الثاني‮ ) ‬وحدده‮ ‬بأنه‮ ‬يشمل‮ ‬دولتين‮ ‬اليمن‮ ‬والعراق‮ ..‬
وإذا كانت آخر الوحدات العسكرية الأمريكية التي نالت منها صواريخ الجيش اليمني ، هي السفينة الحربية الاستكشافية ( لويس بي بولر )، والمسؤولة عن تقديم الدعم اللوجيستي للبحرية الأمريكية ، فقد سبقتها المدمرتان الأمريكيتان ( لابون ) و( جرافلي ) وأضيفت إليهما أحد أهم‮ ‬البوارج‮ ‬البريطانية‮ ( ‬دايموند‮ ) ‬إضافة‮ ‬إلى‮ ‬ثلاث‮ ‬سفن‮ ‬بريطانية‮ ‬وناقلة‮ ‬نفط‮ ‬بريطانية‮ ( ‬مارلين‮ ‬لوندا‮ ) ‬والتي‮ ‬كانت‮ ‬تحمل‮ ‬شحنة‮ ‬وقود‮ ‬للطائرات‮ ‬الإسرائيلية‮ ‬وظلت‮ ‬مشتعلة‮ ‬لساعات‮ ‬طويلة‮..‬
يُضاف‮ ‬إلى‮ ‬ذلك‮ ‬ما‮ ‬تعرضت‮ ‬له‮ ‬القواعد‮ ‬الأمريكية‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬سوريا‮ ‬والعراق‮ ‬من‮ ‬ضربات‮ ‬بالصواريخ‮ ‬والمسيرات‮ ‬،‮ ‬سواءً‮ ‬في‮ ‬أربيل‮ ‬أو‮ ‬الأسد‮ ‬أو‮ ‬الشدادي‮ ‬أو‮ ‬الركبان‮ ‬أو‮ ‬التنف‮..‬
يضاعف من تأثير ذلك على نظرية الردع الأمريكية التي أصبحت هدفاً متعدد الثقوب ، ويؤكد في الوقت نفسه خطأ الحسابات الاستراتيجية الأمريكية على حد تعبير قائد الأسطول الخامس الأمريكي وفقاً لـ (سي بي إس) أمران :
الأول : أنه لم يسبق لأحد في التاريخ أن استهدف بالصواريخ الباليستية أو المسيرات سفناً أمريكية حربية أو تجارية ، وهو قول يؤكد أن التقديرات الأمريكية لم تكن صحيحة وأنها اعتمدت على نزعة تمركزها على ذاتها التي غذتها ذاكرتها التاريخية..
الثاني : أن الصواريخ والمسيرات اليمنية يمكنها أن تصيب هدفها خلال 75 ثانية ، بينما لا تملك الوحدات العسكرية الأمريكية سوى مدى زمنياً محدوداً لاتخاذ قرار بشأن إسقاط الصاروخ أو المسيرة ، يتراوح بين 9 إلى 15 ثانية..
تبقى‮ ‬الإشارة‮ ‬ضرورية‮ ‬إلى‮ ‬أمرين‮ ‬بالغَيْ‮ ‬الأهمية‮ ‬،‮ ‬وإن‮ ‬كانا‮ ‬يحتاجان‮ ‬إلى‮ ‬تفصيل‮ :‬
أولاً : أن تكون عقارب ساعات كافة الجبهات مضبوطة على عقارب ساعة عنصر الوقت في غزة، لتكون حسابات المواقف والأدوار متزامنة تماماً معها دون تأخير، فلا تزال الإبادة والتهجير هما الهدف المرحلي المباشر..
ثانياً‮ : ‬أن‮ ‬يدرك‮ ‬الجميع‮ (‬دون‮ ‬دخول‮ ‬في‮ ‬التفاصيل‮ ‬الآن‮) ‬أن‮ ‬هناك‮ ‬تحولاً‮ ‬استراتيجياً‮ ‬نوعياً‮ ‬بالغ‮ ‬الأهمية‮ ‬يمكن‮ ‬تلخيصه‮ ‬بدقة‮ ‬في‮ ‬أن‮ (‬مفهوم‮ ‬القوة‮) ‬قد‮ ‬تغيَّر‮ .‬
تمت طباعة الخبر في: السبت, 27-يوليو-2024 الساعة: 12:11 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-65483.htm