الميثاق نت -

الإثنين, 12-فبراير-2024
إبراهيم ناصر الجرفي -
إن من السُنن الإلهية في هذه الحياة سُنة التداول، قال الله تعالى : ((وتلك الأيام نداولها بين الناس))، وهذه الآية الكريمة قد لخصت في مضمونها الكثير من دلالات التاريخ والحياة البشرية، وأكدت بشكل قاطع على حتمية التداول بين الناس ، وذلك كجزء من متطلبات إبتلائهم وامتحانهم في هذه الحياة ، وهم يتعرضون لجميع ظروف ومتغيرات ومتقلبات الحياة ، اختبار مواقفهم وأعمالهم وردود أفعالهم ، في الصحة والمرض ، وفي الفقر والغِنى ، وفي الشدة والرخاء ، وفي السلطة والمعارضة ، في القصور وفي السجون ، في القوة وفي الضعف ،، وهكذا.. وهذه السُنة الإلهية تنطبق على الفرد والأسرة والمجتمع والدول وكذلك الأمم ، فما يسري في هذا المجال على الفرد ، يسري أيضاً على الأسرة والمجتمع والدول والأمم ، فكم سرد لنا التاريخ من أخبار أفراد وأسر ومجتمعات وأمم ، تبدَّلت أحوالهم ، وتغيرت ظروفهم ، من السلبية إلى الإيجابية ، أو من الإيجابية إلى السلبية ، وسرد لنا التاريخ ردود أفعالهم في الحالتين ، وتلك القصص الكثيرة الواردة في القرآن الكريم ، والتي تتحدث عن أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم السابقة ، الهدف منها العظة والعبرة والاستفادة ، وجميعها تؤكد على حتمية تداول أحوال الحياة بين الناس ، كما أنها جميعاً تدعو الناس إلى الصبر في حال المكاره والشدة ، وإلى الشكر وحفظ النعمة في حال السرَّاء والرخاء..

وللأسف الشديد رغم كل ذلك ، ورغم أن التاريخ البشري يؤكد على هذه السُنة الإلهية ، ويؤكد على حتمية التداول ، في فصوله وصفحاته ، فمن كانوا يوماً في السلطة ، أصبحوا يوماً آخر خارج السلطة ، والعكس ، ومن كان فقيراً يوماً ، أصبح غنياً يوماً آخر ، والعكس ، ومن كان مربضاً يوماً ، أصبح مُعَافى يوماً آخر والعكس ، وهكذا ، إلا أن الكثير من الناس لم يعتبروا ويتعظوا من ذلك ، ويظنون أن ما بهم من نعمة أو سلطة أو صحة ، هو نتاج ذكائهم وعبقريتهم وحُسْن طالعهم ، فيبطروا ويتكبروا ويتجبروا ويبطشوا ويظلموا ويتغطرسوا ، والجزء الآخر يظنون أن ما بهم من شدة أو نكبة أو مرض هو نتاج فشلهم وعجزهم وسوء طالعهم ، فيصاب الكثير منهم باليأس والاكتئاب والاحباط والضعف والانهزام ، وهكذا ردود أفعال غير منطقية ، تؤكد أن أصحابها لم يدركوا ولم يؤمنوا بسنة التداول ، ولم يستفيدوا ويعتبروا ويتعظوا من القصص التاريخية..

وكم هو مغفل من يظن أن حاله الذي هو عليه اليوم سوف يدوم ويستمر ، فدوام الحال من المحال ، فإذا كان هو نفسه قد تبدَّلت به الأحوال من حال إلى حال ، خلال مرحلة قصيرة في حياته ، فكم من أناس كانوا بالأمس القريب فقراء وأصبحوا اليوم أغنياء والعكس ، وكم من أناس كانوا بالأمس القريب أصحاء وأقوياء وأصبحوا اليوم أمراض وضعفاء ، وكم من أناس كانوا بالأمس القريب خارج السلطة وأصبحوا اليوم هم السلطة ، فدورة التداول لن تتوقف يوماً ، وتبدُّل الأحوال من حال إلى حال مستمرة ، وكل ذلك التبدل والتغيير هو في حقيقة الأمر نتاج سُنة التداول الإلهية الحتمية ، وليس نتاج ذكاء أو غباء ، ولا نتاج قوة أو ضعف ، ولا نتاج حُسْن حظ أو سوء حظ ، كما يظن بعض مَنْ لم يستوعبوا سُنة التداول الإلهية..
ولو يقرأ الإنسان أحوال حياته وأحوال حياة غيره في محيطه الأسري والمجتمعي ، سوف يلاحظ سُنة التداول وهي تجري أمام عينه وبصره ، والإنسان العاقل هو مَنْ يستفيد من كل ذلك ، ويتعامل مع سُنة التداول بأفضل الوسائل ، فكم سيكون رائعاً عندما يتعامل بالصبر والاحتساب لله مع أحوال الشدة إذا ما ألمت به ، وكم هو عظيم عندما يتعامل بالشكر والتواضع مع أحوال الرخاء إذا ما ضحكت له الدنيا ، وكم هو مؤلم أن يتعامل الإنسان باليأس والقنوط إذا ما دارت عليه الأحوال من الرخاء إلى الشدة ، وكم هو فظيع عندما يتعامل الإنسان بالبطر والتكبر والغرور والبطش والظلم ، إذا ما دارت له الأحوال من الشدة إلى الرخاء ، ومن الضعف إلى القوة..

وكذلك الحال هو بالنسبة للأسر ، والمجتمعات ، والجماعات ، والدول ، والأمم ، فأحوالها متغيرة ومتبدلة ، من ضعف إلى قوة ، ومن قوة إلى ضعف ، فكم رأينا من دول وأمم كانت يوماً في المقدمة ، وأصبحت اليوم في المؤخرة ، وكانت يوماً ما قوية وأصبحت اليوم ضعيفة وهكذا ، وكم رأينا من أحزاب وجماعات كانوا يوماً ما خارج السلطة ، وأصبحوا اليوم في رأس هرم السلطة ، وللأسف البعض ينسى سُنة التداول ، ويظن من عند نفسه أن حتمية التداول سوف تصل إليه وتتوقف ، وسوف تتركه على حالٍ واحد ، لذلك لا يتردد عن ممارسة السلوكيات السلبية تجاه الآخرين ، متناسياً أنها لو دامت لغيره ما وصلت إليه ، وهذا هو الغباء والغرور بعينه ، فحتمية التداول لن تتوقف ، ولن تترك أحداً على حاله ، لأنها سنة إلهية تجري على الجميع ، ولا يمكن أبداً تغيير أو تحويل سٌنة الله تعالى ، والحكمة والذكاء تتطلب الاستعداد النفسي والمعنوي لحتمية التغيير والتبديل والتعامل الإيجابي معها في كل الظروف والأحوال..
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 03:19 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-65526.htm