أدهم شرقاوي - على ما يبدو أنَّ الحربَ تُوشِكُ أن تضعَ أوزارها في غزَّة، ومع كلِّ نهاية حربٍ يكون السؤالُ البدهيُّ : من الذي انتصر؟!
شخصيًّا أُؤمنُ يقيناً بأنَّ غزَّة قد انتصرتْ في هذه الحرب قبل أن تبدأ.. من اللحظة التي أذلَّتْ فيها قوّات النُّخبة في كتائب القسَّام جيشَ الاحتلال يوم العبور المجيد كان النَّصرُ قد تحقَّقَ.. الحربُ على مدار أشهرٍ كانت أن الاحتلال كان يُرمِّمُ خيبته، والمقاومة كانت تُدافعُ عن نصرها.. وفي حين أضافَ الاحتلالُ خيبةً جديدة وهو يُرممُ خيبته الأولى، كانت المقاومة تُسجِّلُ نصراً إضافياً..
لا يمكنُ الحديث عن النَّصرُ في الحرب دون الالتفات إلى موازين القِوى بين الطرفين المتحاربين، وبين جيشٍ نظاميٍّ جرَّار هو الأقوى في المنطقة، ومقدِّرات الغرب كلها تحت إمرته، وسلاحها رهن إشارته، وبين مقاومةٍ محاصرةٍ من إخوتها قبل أعدائها، غالب سلاحها صنعته بيديها، وقليله استوردته بشقِّ الأنفس، فإنَّ النَّصر بالنسبة للمقاومة هو بقاؤها واقفة على قدميها رغم جراحها، وهذا هو الذي حدث، فالذي أنهى الحرب هي قذائف الياسين 105، وعبوات شواظ، وقناصة الغول، وقفزة عاهد أبو ستة الشَّهيرة: ولّعتْ، وصرخة مهنّد جبريل وهو يقول : حلِّلْ يا دويري، وسجدة تيسير أبو طعيمة، والمئات من مجاهيل الأرض مشاهير السّماء، وليس أروقة السياسة، ولا مبادرات السَّاسة.. في الحروب لا صوت أعلى من صوت الميدان، وهذا الميدان كسبته المقاومة بمئات المثلثات الحمراء،
أما المُحتلُّ فنصره الوحيد كان هو أن يكسر المقاومة كسراً لا تقوم بعده، وهذا ما لم يتحقق بفضل الله..
وكذلك فإنَّ النَّصرَ في الحربِ يستدعي أن نفهمَ طبيعة الصِّراع، وكُنْهَ الحرب، فما لا تفهمه بدقّة لن تُحلله تحليلاً صحيحاً؛ وما لم تُحِطْ بِسُنَنِه التَّاريخيّة فلن يكون لديكَ نماذج تقيسُ عليها، ولا شبيهاتٍ تُحاكيها..
هذه حربٌ بين محتلٍ سلاحه ترسانته، وبين صاحبِ أرضٍ سلاحه عقيدته وإيمانه وحقُّه.. ولطالما كان صاحب الأرض هو الذي يُقدِّم القربان الأكبر من الدَّم، لهذا فإنَّ النَّصرُ في هذه الحرب لا يُقاسُ بعدد شُهدائنا مقابل عدد جِيَفِهم!
الجزائريون لم يقتلوا من قوات الاحتلال الفرنسيّ أكثر من خمسين ألفاً، ولكنهم انتصروا رغم أنهم قدّموا مليون ونصف شهيد..
والأمريكان قتلوا من الفيتناميين أضعافاً مضاعفةً مما قتل الفيتناميون منهم، ورغم هذا خرجت أمريكا من فيتنام وهي تجرُّ أذيال الخيبة..
الهنودُ الحمرُ خسروا حرب التّحرير الخاصة بهم، لا لأنّ ضحاياهم كانت كبيرة، بل لأنّهم جميعاً أُبيدوا وصاروا ضحايا، أما نحن فباقون وللحكاية بقيّة..
وكذلك فإنَّ النَّصرَ في الحربِ إنما يُقاس بمدى ما يُحقق كلّ طرفٍ فيها من الأهداف التي أعلنها، لا بمقدار ما يقتل ويُدمّر..
أنتَ حين تخسرُ مباراةً على أرضية الملعب فلن تصبحَ فائزاً إذا ما جرَّفتَ أرضية الملعب الذي أُقيمت عليه المباراة، ستبقى خاسراً لأنه لا أحد يحتسبُ تكسير كراسي الملعب من ضمن الأهداف..
المقاومة تفهم قدراتها جيداً، وتعي حدود الصّراع وأبعاده، وتُدركُ المحيط الإقليمي والدولي الذي تعيشُ فيه، وتعرفُ أنها لم تصل إلى جولة حرب التّحرير الكامل، لهذا هي لم تُعلن أنها تريدُ القضاء على دولة الاحتلال في هذه الجولة، ما أرادته من هجومها المبارك حصلتْ على بعضه، وبعضه تُستجدى لأجل أن تقبل بوقف الحرب وتأخذه،
أمَّا المحتلُ فقد أعلن للحربِ أهدافاً لم يُحقَّقْ منها شيئاً..
أعلنَ الاحتلالُ أنه سيُغيّر شكل الحكم في غزّة، وأنّ حماس لن يكون لها وجود، ثمّ ها هي باقية، وهو يفاوضها، ويعترفُ بشرعيّتها، وهو اعتراف الذليل المهزوم وإلا فإنَّ المقاومة أخذت شرعيّتها من أهلها وبيئتها الحاضنة التي ما زالت تضعها على رأسها رغم العقاب الجماعيّ الذي طالهم..
أعلنَ الاحتلالُ أنه سيُحرِّرُ أسْراه بالقوة، ولم يستطعْ أن يُحرِّرَ أسيراً واحداً، وصدقت المقاومة وَعْدَها إما أحياء عن طريقنا وإما في التوابيت عن طريقكم!ط..
أعلنَ الاحتلالُ أنه سيُفككُ بنية القسّام العسكرية، وها هي كتائب العزِّ تصولُ وتجولُ، يدها طائلة، وقذائفها حارقة..
أعلنَ الاحتلالُ أنه سيقتلُ قيادات المقاومة، ثم ها هم ما زالوا يديرون الحرب باقتدارٍ عسكرُهُم وساستُهم! ثم لو مَنَّ الله على بعضهم بالشّهادة فهذا ليس نصراً للمحتل، هذه المقاومة ولّادة، استشهد أحمد ياسين فصار قذيفة، واستشهد يحيى عيّاش فصار الصاروخ A250 الأطول مدىً وقدرةً على التدمير بين صواريخ المقاومة.. حتى عز الدين القسام الذي استٍشهد قبل ميلاد دولة الكيان حملت الكتائب اسمه..
لا يوجد دم يضيعُ سدى على هذه الأرض..
أعلنَ الاحتلال أنه سيشوّه صورة المقاومة في العالم، فتمَّت جرحرته إلى محكمة العدل الدولية وإدانته، أما المقاومة فكبيرة بعيون أعدائها قبل عيون أحبابها..
الحربُ قاب قوسين أو أدنى من نهايتها، خرجنا منها مُثخنين ولكن أعزاء،
مكلومين ولكن رؤوسنا مرفوعة، بيوتنا في الأرض ولكن كرامتنا تبلغُ عنان السّماء، شُهداؤنا كُثر ولكن عزيمتنا صلبة، مساجدنا سُوّيت بالأرض ولكن إيماننا شامخ..
البيوت المهدمة سنبنيها، وسنصهر حديدها ونجعله أجساماً لصواريخ الجولة القادمة..
شباب قوات النخبة الذين استُشهدوا سنُدرّب غيرهم..
المساجد سنعيدُ مآذنها شامخة..
والمستشفياتُ سنعيدُ لها دورها..
والجامعاتُ سنقيمُ صفوفها ومختبراتها..
والأطفال سننجبُ غيرهم..
والعائلاتُ التي مُحيت من السّجلات المدنية، سنسجّل غيرها العشرات..
وليس بيننا وبين هذا المحتل إلا لغة الرّصاص، اللغة الوحيدة التي يفهمها ويحترمها، ولن نتوقف حتى يُصلّي من يبقى منا في المسجد الأقصى.. |