الميثاق نت -

الجمعة, 23-فبراير-2024
د. طه حسين الهمداني -
تُعد تجربة ما سُمّي  بالربيع العربي في اليمن واحدة من أكثر التجارب ذات الأثمان الباهظة  على كافة المستويات، فما أفرزته من نتائج كارثية خلال ما يربو عن الـ 13 سنة  الماضية كان ولا يزال سبباً كافياً لمراجعة أدق التفاصيل ومجمل المدخلات التي أدت في نهاية الأمر إلى هذا النوع من  التشظّي والصراع المخيف تمثَّل قي تقديم فاتورة باهظة من الأرواح والمقدرات وضياع مستقبل أجيال بحالها..
ولكي لا نلقي باللوم والانتقاد على تلك  الاحتجاجات وما وصلت إليه الأوضاع بصورة عامة، فإن الفاعلين في المشهد السياسي اليمني ومن جميع التيارات والتوجهات وخاصةً قوى المعارضة حينذاك التي فتحت الباب أمام الفوضى العارمة، مما أدى إلى انفلات غير مسبوق، حيث حشدت كل الأدوات دون مراعاة للبنية الاجتماعية والسياسية والقبلية في البلد، الأمر الذي دفع الأحداث إلى التفجر  بالصورة التي شهدها الشارع اليمني وصولاً إلى الانهيار التام للدولة وسيطرة الميليشيا على كافة مفاصلها وتقويض أركانها..
كل ذلك لا ينفي أن الشعب اليمني كان ولا يزال يتطلع إلى بناء الدولة المدنية العادلة القائمة على ركائز المواطنة المتساوية، وإتاحة الحريات وفتح مجال الديمقراطية بالصورة التي لا تُقصِي أي طرف، ولا تسمح بالاستئثار بالسلطة وإقصاء الأطراف الأخرى وغياب الرقابة الشعبية ومحاولة فرض نمط سياسي وعقائدي واجتماعي معين لا ينسجم مع القيم والثوابت الوطنية التي ألِفَها ويتمسك بها شعبنا اليمني..
إن الحاجة إلى إذابة الفوارق وتضييق فجوة الخلاف في الرؤى والبناء عليها بات مطلباً مُلِحاً وعاجلاً من أجل التخلص من الأفكار والذهنيات المريضة التي تسعى إلى ترسيخ نفسها عبر المناطقية والعنصرية والمذهبية المقيتة والسلالية، على حساب التنوع الاجتماعي والثقافي والخروج على  القوانين النافذة التي ُتنظم حياة الناس، والإدارة القائمة على الشفافية والمساءلة، وترشيد العلاقات في أوساط المجتمع بما يكفل الحياة الحرة والكريمة للجميع دون تعالٍ أو تنزيه أو إقصاء..
لذا  فان كل ما تم التنويه إليه سلفاً  يحتاج إلى إرادة وفكر سياسي وإداري متجانس ورجال مؤهلين لذلك، يمتلكون الرؤية والأدوات القادرة على تأسيس بُنْيَة متينة، تتيح للناس التواصل دون عوائق أو تمييز  للوصول إلى  الحكم الرشيد..
إن عملية السلام المجتمعي والسياسي بحاجة لتوافق يبدأ من الرأس ليصل إلى أبسط مواطن داخل المجتمع، من أجل ترسيخ عملية الاستقرار التامة وإتاحة الحركة أمام الناس ومنحهم حقوقهم المادية والمعنوية، وليس كما هو حال الموظف اليوم، وإيقاف العبث بالموارد وتسخير كل المقدرات من أجل مشاريع طائفية أو مناطقية أو حزبية لا تخدم المواطن ككائن له كرامته وهو محور الحياة والتعبير عن الحالة العامة..
ولعل التشديد على إيجاد واقع يتيح للجميع التعبير عن خياراتهم السياسية، هو ما سيعيد البوصلة إلى مسارها الصحيح بعيداً عن الإقصاء والبحث عن مشاريع التفكيك، والذهاب بعيداً بشكل أحادي؛ الأمر الذي سيظل يفرز صراعات متتالية لن تكون بصالح ملايين المواطنين..
إن النقطة الأهم وجوب أن نعي أن مسألة إيجاد نظام سياسي وإداري متكامل يستطيع تقديم الخدمات ليس بالأمر السهل.. ولعل التجربة المريرة التي مرَّ بها شعبنا خلال العقد الماضي -حيث سقط كل بنيان النظام، وانهارت الخدمات ولم يعد لها أثر- ستدفع الكثير لمراجعة الأفكار والعمل على خلق تراكمات إدارية تعيد ما تم فقدانه خلال السنوات الماضية..
اليوم هناك ركائز تم فقدانها وقد أصابت الحياة والمواطن بمقتل، غياب الحركة والنشاط في المدن بشكل طبيعي، انقطاع الكهرباء والمياه، تردّي الاتصالات، واضطراب في المشتقات النفطية، غياب النظافة في المدن وكثير من المناطق ما خلق بيئة من الأوبئة الفتاكة بعضها كانت البلد قد تخلصت منها، كالملاريا وشلل الأطفال والحصبة، وعودة الكثير من الحُمِّيات، إلى جانب سوء التغذية التي تفتك بالمواليد والأمهات الحوامل والمرضعات..
إعادة الاعتبار للأرض الزراعية والمزارع ورفع الجبايات وتوفير مواد التشغيل ودعمها بكل السبل التي تجعل منه منتجاً مهماً وكذلك رد الاعتبار للمعلّم في المدرسة والأستاذ في الجامعة، واحترام المرأة من دون التقليل من دورها كأم ومدرّسة وموظفة ومربّية، ودعم التعليم وإيجاد حياة كريمة للمواطنين، وإبعاد الأطفال عن الصراعات والتعبئة الفكرية الخاطئة..
نحن أمام مرحلة حرجة نحتاج فيها إلى جبر الضرر، وترميم ما أفسدته الصراعات والحروب والشحن الطائفي، ولا بد هنا من مصالحة وطنية قائمة على التنازلات وتحكيم صندوق الانتخابات ومحاسبة الفاسدين، وإصلاح القضاء بما يخدم المجتمع وليس الأشخاص، والاستعداد لإعمار ما دمرته الحرب، ودعم المجالس المحلية والحكم المحلي وتوسيع الصلاحيات، وإعادة الاعتبار لرجال الأمن والقوات المسلحة كمؤسستين مهمتين في إطار ترتيب البيت اليمني الذي يطمح إليه كل مواطن..

إن هذه النقاط تشكل حافزاً لفتح حوارات معمقة بين الكل وتجاوز الماضي على أن ناخذ منه الدروس والعظة من أجل رسم مسار جديد وتوجُّه جريئ يحمل شعار: "لنتطلع جميعاً إلى اليمن  الوطن والتاريخ والكرامة".
تمت طباعة الخبر في: السبت, 27-يوليو-2024 الساعة: 12:18 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-65587.htm