عبدالرحمن بجاش - يدنو الغبش فنتهيأ للفحة البرد القادمة من حفيف الشوارع الباردة ..
خطوات أقدام جنود الصاعقة تهيئ للفجر ولقبلة الشمس الأولى..
تدب الحياة بين الباب وبداية ما تبقى من سور صنعاء الأزلية..
تتهادى سيارات الفجر، تسمع النداء بين الأولى والثانية :
تعز، تعز باقي نفر
يجدد بقايا هزيع السحور صوت الموساني :
هيا الصباحة موسنة مناخة هيا باقي راكب ، بينما يتسابق الركاب ، هناك باص تعز، هناك باص الحديدة سيارات البيجو تسرق راكباً من هنا ، تلتقط راكباً من هناك …
تتداخل أصوات منبهات السيارات بأصوات تتردد :
هيا يا دب أين الفاصوليا
هيا واحد شاي ونص فول ، أين الدب ؟
والدب وهذا هو اسمه من قرية النباهنة قدس ، ذات مرحلة عظيمة وأحلامها وتطلعاتها شغل الدب صنعاء ، صنعاء القديمة تتدفق على الكراسي ليلاً ونهاراً تأتي صنعاء الجديدة بقضها وقضيضها …
ذات نهار قدم أحمد علي وشقيقه ، لترتفع لوحة من حق تلك الأيام " مخبازة الشيباني " لتتحول يوماً عن يوم إلى مخبازة اليمن ، على تلك الكراسي جلس اليمنيون من مهرتهم الى صعدة :
شاهي شيباني
خبز شيباني
والزريقي وإبراهيم يذهبان يجيئان يجيبان زبائن المخبازة التي لم ينقطع السيل عنها حتى تقطعت أنفاسنا نحن حزناً على أحلام رجال وُئدت بين جبلي عصر ونقم …
كانت سيارة الروتي حق "السنجم" تأتي هي الأخرى فجراً وأنا أتميز من الغيظ ، كيف تجاوز الشيباني مخبز الثورة وذهب إلى باب السلام ، كان "السنجم" العزعزي ضابطاً في الصاعقة ، أنهى مهمته عسكرياً فخلع البدلة وذهب إلى سوق العمل ، لم يشغل البلاد بكونه مناضلاً وصاحب جميل ، لا يمكن لك أن تحسب جميلاً لك على وطنك !!
السنجم كان عديل البردوني …
تصحو صنعاء على وَقْع أقدام الزريقي..
أما ابراهيم فيترك أقلاص الشاي ويجري بعدي وأنا متوجه الى مدرسة سيف :
"أنا فدا لك خليني أشم دفاترك" ، حُرم إبراهيم من التعليم فلم أحرمه من رائحة كتبي وفي مقابل ريحة الكتب يمرر لي عندما أعود فنجان شاي شيباني مجاناً !!!!
في نهايات الأسابيع ترى الصاعقة والمظلات هناك على الكراسي خميس وجمعة يتسابقون على "رشوش" أحمد علي ، وأنا عيني تلاحق الطباخ الذي بحدسي كنت أردد :
هذا الرجل بمئزره وكوفيته وشميزه المميز، لايمكن ان يكون طباخاً فقط ..
ذات نهار مسكني :
ياعبدالرحمن أناانا لست طباخاً فقط عند عمك أحمد علي الشيباني ، بل كنت فدائياً مع جبهة التحرير، تركت عدن بعد الاستقلال.. كان رجلاً مهيباً..
يحرص الـ"مصلي" -وهذا لقبه- على أن يقطع المسافة القصيرة بين مخبزنا في باب اليمن ومخبازة الشيباني بالسيارة "المحروسة" التي نوزع عليها الروتي ، أحياناً يعود إلى الخلف ثم يرجع إلى مكانه ، ذات يوم لاحظه عمي فطرده ووقع لي يوم أعوج !!! ، ضحك أحمد علي عندما سمع عمي يصيح :
يا أحمد علي أصحابي "يزكنوا" الشاي بالسيارة،
ضحك أحمد علي حتى تعب …
أيام السبعين عمرت مخبازة الشيباني بالأطفال الذين يشيبون عند الفجر برجال تلقَّوا القصف فوق رؤوسهم غير آبهين، كان الجميع يحلمون ..
على كراسي الشيباني جلس عبدالرقيب عبدالوهاب والوحش وجنود مجهولون …
ومن هناك مر قاسم منصر الشيباني وعلي الشيباني وآخرون كُثُر..
رجال من كل أصقاع هذه البلاد مروا على مخبازة الشيباني في باب اليمن ، وأنا ظلت روحي هناك في العمارة بين بيت البهلولي وعمارة مؤسسة النقل البري الذي منح الغنامي مديرها لوحة دعاية مضيئة لتائرات "بيرجستون" أو بريدجستون فذهب بها المدير لإضاءة ديوان البيت !!!
الزريقي هو الآخر وكان طباخ الشاي غادر مخبازة الشيباني إلى منتزه التحرير وصار بقدرة قادر رفيق الليالي المفعَمة بنسيم ليل صنعاء ..
كنا نصحو فجراً نبحث عن كأس بُن فنراه يأتي بالبُن قبل الناس جميعاً ، قلت ذات ليل :
يازريقي كيف تقدمنا على الجميع.. ضحك :
مابيننا حليب أم !! لما أشوفكم أحس أننا جئنا من بطن واحدة " الـ….." يؤلف بين القلوب ، الزريقي هو الآخر غادر صنعاء عائداً إلى قريته لتنقطع أخباره عنا مثل علي الإبي الذي باع صنعاء لأحمد عبدالله مقبل بـ" 7 " ريالات وأنا من كتب صك البيع والشراء !!!
زمن مثلته مخبازة الشيباني التي لاتزال صامدة ولكن بلوحة أخرى "مزهنقة …" ..
وأحمد علي عاد أدراجه إلى بني شيبة بعد أن عايش أروع مراحل عمر هذا البلد ..
من اليمن كله مر الرجال على مخبازة الشيباني…
لله الأمر من قبل ومن بعد ..
|