محمد المياحي - للناس طبائع وميولات غريبة في الفرح.. فهناك من يفرح لأبسط الأشياء، وهناك من يتكدّر لمجرد أنه ربح كثيرًا، فيما آخر زاد عليه بفارق قليل في الرِّبح..
يقول شوبنهاور: "هناك أمزجة تفرح لمجرد أن حالفها الحظ بأنْ فازت لمرة واحدة بمكسبٍ ما، ولو أخفقت عشر مرات أخرى، وآخرون يشعرون بالتعاسة لو ربحوا تسع مرات وأخفقوا في واحدة"..
ليس للفرح أي معادلة ثابتة، ولا أي تفسير منطقي موحّد؛ فالطبائع الأساسية للبشر هي من تُقرر ما إذا كان شيء ما مفرحاً لهذه الشخصية أو تلك.. فقط هناك شرط أساسي يتماثل لدى الجميع، وبدونه يتعذّر أي إمكانية للفرح لدى الجميع؛ شرط الصحة الجيّدة أولًا.. لهذا السبب ربما يكون أول سؤال يفتتح به البشر الحديث مع بعضهم: كيف حالك..؟ كيف صحتك..؟
لا أحد يرغب بالتعاسة؛ لكن هناك من لا يريد أن يفرح؛ حتى لو توافرت له شروط الفرح.. تلك طباع متجهِّمة هكذا وُجدت.. إنّها لحماقة ألا يستثمر المرء أي فسحة للفرح، ويعيشها كاملة، فالحياة بخيلة بالأفراح، تملؤها المنغّصات من كل مكان.. والحكيم من لا يمانع أمام أي حالة يوضَع بها وتتوافر فيها عوامل للبهجة.. ففي الفرح صحة للجسد وراحة البال هي عناصر مهمة ليواصل الإنسان حياته بقوة أكبر في هذا العالم التائه والحزين..
"إنّ الإنسان لم يفرح كثيراً في هذه الأرض، مذ أول وجود له؛ حتى اللحظة"، لا بأس يا زرادشت..
"لقد خلقنا الإنسان في كبد".. لربّما لا يكون الفرح غاية أو مقصداً للحياة.. ومن الجيّد للإنسان ألا يضع الفرح كهدف مركزي في حياته؛ كي يحمي نفسه من خيبة مؤكّدة سوف يصطدم بها.. لعلّ هذا ما يُفسر شعور الكثير بالكآبة الغامضة، ذلك الضجر المفاجئ والغريب مساء يوم العيد.
لقد كان في لا وعيه، ينتظر فرحاً كبيراً، إحساساً عالياً بالغبطة تنتابه دونما سبب؛ لكنه لم يجدها؛ فشعر بالإحباط.. والغريب أنّه لم يتعلم منذ أول عيد عاشه، وما يزال يقع في الفخ نفسه بشكل متكرر كلّ عام.. هناك احتمال أن يكون العيد نفسه شكلاً مُبطناً من الخديعة، يوهمك بالراية الحمراء، وحين يرى ارتفاع هياجك، يصدمك بالسراب..
لعلّه يرغب أن يورثك حكمة غامضة عن جوهر الحياة، وأنت لست مستعداً لتفهم أيُّها الإنسان..
ليس عليك أن تنظُر للسعادةٍ كهدف، السعادة ليستْ هناك، ليست شيئاً تذهب لتجده في توقيتٍ ما، في مكانٍ ما في إنجازٍ ما.. السعادة ناتج عرضيّ للحياة الطيبة والحكيمة.. عليك أن تصحو كي تحيا على نحو طيّب، تبذل كل ما بوسعك لهذا العالم، ثم ستجد السعادة تشع بذاتها من حياتك.. تأتيك البهجة من كل الجهات حين لا تكون مُركِّزاً بصرك عليها..
البهجةُ فن، والفنُ يبلغُ مستوى الكمال كلما كان غير مباشر، البهجة مجاز، متوارية ومنزلقة، كل شيء ولا شيء.. وهذا دليلُ جيد بأنّ البهجة لا تأتيك بشكل قصدي.. إنها بطبيعتها، غامضة وهاربة.. أكثر أفكار الوجود إلتباساً هي حكاية السعادة، لم يتمكن أحد من القبض على جوهرها وفلسفتها.. المهم ألا تذهب إليها؛ فتُفسدها؛
دعها تفيض حولك بالضربات المائلة، هكذا تلتقطها في الأحراش والقنوات الموازية أكثر مما تصادفها في المحطات الرسمية..
تقول دراسات كثيرة: إنّ غالبية البشر لا يشعرون بالراحة أيام إجازاتهم كما يشعرون بها في أيام الدوام..
لعلّ هذا تأكيد ثانٍ على صحة المعنى القرآني: "لقد خلقنا الإنسان في كبد"..
للبشر مذاهبهم في الفرح، وليس لأحد أن يحجِر عليهم ويحدد لهم ما يصح أن يفرحوا به، وما لا يصح.. غير أنّهم في كل حالاتهم غريبو أطوار؛ يفرحون بشيء ما ثم ما يلبث أن يموت فرحهم، ويبحثون عن شيء آخر.. حين تتأمل تقلُّب عواطفهم ونظراتهم، تلحظ بحثاً دائماً عن شيء ما مفقود.. هناك دائماً رغبة بامتلاك شيء ما، بمنصب، رغبة بمتابعة أحداث لم تقع، فضول للاطلاع على فكرة تمنحهم انسجاماً ما، لكنّ لا شيء يمكنه أن يمنحهم امتلاءً دائماً.. فمهما حصلوا على أي شيء، مادي ومعنوي، سرعان ما تموت في أرواحهم المعاني، ويستيقظون للتفتيش ثانيةً عمّا يروي ظمأهم المتجدد، لشعور يهبهم طمأنينة، إحساساً بالامتلاء؛ وكلها مشاعر قريبة من الفرح. لربما أنّ هذا هو طَبْع الإنسان، ترحال دائم، ودوران أبدي نحو المشاعر نفسها.. حتى أنّهم لو مُنحوا فرحاً أبديّاً لملّوا منه وبحثوا عمّا يجدد انفعالاتهم ويمنحهم عواطف متنوعة..
لعلّ ظمأ الإنسان للفرح تعبير عن ضيق الوجود، هناك شيء في الإنسان أكبر مما يتسع له هذا العالم؛ وما التَّوْق الدائم نحو إحساس جديد سوى محاولة لترميم نقص جوهري في الطبيعة البشرية..
لديستوفيسكي، خلاصة غريبة بقدر صحتها، يقول: "لا أدري من قال إن الإنسان يبحث عن السعادة في الدنيا، من قال إنّه يرغب بمصلحته"، حتى حين يتوهم هو ذلك، هناك دوافع لا يعلم أحد ما الذي ترغب به.. إنّه لا يرغب بشيء محدد، بقدر ما يبحث عن نفسه؛ ولهذا لا يمكن لأي عاطفة، مهما كانت قوية وموثوقة، أن تهب الإنسان ارتياحاً أبديّاً، وهكذا سيظل حاله [ليقضي الله أمراً كان مفعولاً]، كما يقول نص القرآن الكريم.
|