د. طه حسين الهمداني - مهما بلغت التباينات في وجهات النظر من الحِدة ومهما تعددت أوجه الخلاف تظل المسألة بالنسبة للكثيرين غير قابلة للتراجع، بعد الصراع والمخاض الطويل وتضحيات لا يمكن أن يقبل بالتشطير لمجرد أن هذا الإنجاز تعرض لبعض المشكلات السياسية والأخطاء الواردة في أي عمل نضالي يهدف إلى انتشال أمة من الشتات والانقسام..
إذ من نافلة القول عند الكتابة عن الذكرى الرابعة والثلاثين لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية الخالدة وقيام الجمهورية، تجاوز الأخطاء والقضايا الشخصية وتحميل الوحدة مسؤولية ما حدث بدلاً من معالجة الأسباب دون المساس بهذه القيمة العظيمة، والتأكيد على أن هناك اجماعاً وطنياً على أن إعادة تحقيق الوحدة اليمنية هو من أكبر الانجازات التي تحققت في تاريخ اليمن المعاصر، وكان أحد أهداف الحركة الوطنية وترجمة لمبادئ الثورة اليمنية المجيدة (سبتمبر وأكتوبر)، وأن حالة التشطير والتشظّي كانت الاستثناء وان التشطير كان من عوامل الصراع بين الأنظمة الحاكمة في الشطرين، وأن الحروب والصراعات الداخلية لا تقدم نفعاً للناس ولا حلولاً للمشكلات القائمة..
ولهذا اعتُِبرت الوحدة أكبر تحول تاريخي وجيوسياسي في تاريخ اليمن الحديث، ومما زادها ألقاً كتجربة نموذجية أنها جاءت نتيجة الحوار والتوافق السياسي، وثمرة عمل شاق وكبير من النخب السياسية والاقتصادية ساهم فيها جميع أبناء اليمن الاخيار بالإعداد والتحضير لمشروع دستور الدولة والقوانين الأساسية الناظمة لها..
كما أن تحقيقها قد تلازم مع إقرار التعددية السياسية والحزبية وحرية الرأي والتعبير، وتزايد الاهتمام بحقوق الإنسان وخاصة الحقوق السياسية للمرأة اليمنية، مما جعلها مشروع اصلاحي وتحول رشيد، ورغم ما يؤشره البعض عن نقائص اعترت بعض بنود اتفاق إعلان الوحدة من تقاسم السلطة والنفوذ حينها، إلا أن عملية إدماج كيانين ونظامين ودولتين وتراثين سياسيين في كيان قانوني ودولة واحدة ليس أمراً يسيراً مع إدراك كل صعوبات الواقع وخلفية الأحداث، لذا تطلَّب الأمر بذل المزيد من الجهود والمرونة لأجل تحقيق ذلك واستيعاب الجميع تحت مظلة الدولة الجديدة الوليدة خلال الفترة الانتقالية..
لكن هنا يجب الاعتراف بأنه تم التمادي في ذلك الأمر إلى شكل من أشكال تقاسم السلطة والإدارة فتسبب في تضخم الجهاز الإداري للدولة وتصادم البنية الفكرية والاجتماعية التي غذتها سياسة الاستحواذ، مع عدم استعداد البعض للتخلي عن أي من المكاسب أو المساحة أو المكانة التي حصل عليها نتيجة قيام الوحدة، حتى وإن كان هذا التحول نتاجاً للعملية والمسار الديمقراطي الذي تم التوافق عليه، ويجب أن يسود ويُتبع، كون الديمقراطية وإشاعتها أمراً اقترن بالوحدة، ما خلق الكثير من المشكلات التي تطلب تصحيحها ودفع اثماناٍ باهظة والدخول في أزمات جديدة للدولة..
ومع دخول أول انتخابات بعد الفترة الانتقالية وحداثة التجربة والممارسة الديمقراطية، والتركيبة السكانية وحسابات السياسيين لم تكن تدرك حجم المصاعب، وإدارة دولة بفكرين مختلفين، ورؤى متعددة، كانت تحتاج إلى نضج كبير في الممارسة..
أتذكر أن الأخ الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح قبيل الانتخابات النيابية اقترح توحيد المؤتمر الشعبي العام مع الحزب الاشتراكي اليمني تجنباً لتنافس الحزبين الحاكمين حينها واستحقاقات نتائج الانتخابات..
وكان هناك موافقة مبدئية من الأخ نائب الرئيس علي سالم البيض، ولكن مخاوف بعض قيادات الحزب الاشتراكي أدت إلى رفض ذلك، إذ كان على قناعة بقدرتها على الحصول على نسبة كبيرة من مقاعد مجالس النواب اعتماداً على شعبيتها في عموم المحافظات وخاصة الشمالية ذات الكثافة السكانية..
اليوم وبعد مرور كل تلك السنوات على قيام الوحدة وما يمر به الوطن من أزمات وصراعات أستطيع القول إن الوحدة اليمنية تظل سياجاً منيعاً لحماية جغرافية اليمن، وهي صمام أمان لأي تسوية سياسية يتم التوافق عليها، وربما تكون رافعة قوية لتجاوز كثير من المطبات عند الشروع في بناء الدولة المدنية الحديثة، من خلال ترسيخ مبدأ المواطنة المتساوية والمساواة وتطبيق مشروع الإصلاح من أجل خلق التوازن ومنع ضياع البلاد شمالاً وجنوباً وتركها لحكم فئات موتورة وجماعات نفعية لا تمتلك رؤية واقعية لمستقبل اليمن..
إن نظرة سريعة على جغرافية العالم تتيح لنا الاقتناع أن الدول القوية هي الموحدة للتعزيز من قوة الدولة وتوزيع الصلاحيات لمختلف المحافظات والوحدات الإدارية بما يضمن تماسك البلاد والحفاظ على وحدتها وكرامتها..
فعلى سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية؛ وأيضاً غير بعيد ألمانيا بعد توحد شطريها الشرقي مع الغربي باتت رافعة اقتصادية وسياسية للاتحاد الأوروبي..
إننا نعيش في عصر التحالفات أصلاً والعمل الجماعي والمؤسسي وهو الذي يخلق كياناً متماسكاً وقوياً وبنية متكاملة، حتى أعظم الدول عندما تريد العمل لتحقيق هدف معين تقوم بتشكيل تحالف لها.. وكما قال أكاديمي عربي: قل لي من حلفاؤك أقول لك من أنت.. وأنا أقول هنا قل لي من أنت وما حجمك الجغرافي والسياسي والثقافي؟ أقول لك ما ستكون عليه مستقبلاً..
نحن لدينا بلد عظيم تاريخاً وجغرافية، والوحدة أضافت إليه قوة وهيبة، فعلينا عدم التفريط بمنجزه الخالد؛ وسُنة الحياة التطور، وكل شيء قابل للتعديل والتطوير عبر الحوار الوطني المخلص بين أبنائه ومثقفيه وسياسييه ووجاهاته ومفكريه، وأهل اليمن يعرفون قيمة الوحدة ويؤمنون بأنها الضمان للمستقبل.
|