محمد علي اللوزي - شكَّل 22 مايو فتحاً جديداً وغير عادي ليس على مستوى الوحدة الوطنية وإنما على مستوى الأمة، أعاد لها الثقة بأنها قادرة على لملمة نفسها، وتجاوز تشظّيها والانتقال من راهن التجزئة إلى مواقع وحدة الهدف والمصير المشترَك، إنْ لم يكن على مستوى وحدة التراب.. ومع 22 مايو 1990م انتقل الوطن اليمني إلى حالة أرقى من التعددية السياسية والحزبية وحرية الرأي والتنوع في إطار الوحدة، لتكون اليمن بجغرافيتها الطبيعية أكثر حيويةً وانتصاراً لقضايا العصر وللفهم في التعاطي مع قضايا الراهن، بعيداً عن التجاذبات الدولية التي ألِفتها بلدان العالم الثالثية، والانحيازات خارج الجغرافيا والتاريخ والهوية..
لعل سقوط الاتحاد السوفييتي قد أسهم إلى حد كبير في الانتقال من التجزئة إلى الوحدة الوطنية بمكتسباتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. نحن إذاً أمام ميلاد عظيم لو أن ثمة فهماً عميقاً لهذا الانتصار بعيداً عن الأهواء والميولات والرغبات التي رافقت هذا التحول، والتجاذبات التي طغت إلى حد التعصب والبحث عن القهرية والاستحواذ والسيطرة على مقدرات وطن؛ حيث لم يرق للنظام آنذاك الشراكة الوطنية فسعى إلى إيجاد تكتلات باسم الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية لتنخر هذا الطالع الجديد وترهقه صعودا، وتجعل من المكاسب الوطنية بروح انتهازية خالصة مجرد طلاء أو ديكور يخفي أطماعها في احتكار السلطة، ولعل هذا التصاعد من النهم والذي بلغ ذروته في حرب صيف 1994م قد أدى إلى مفترق طرق ما زال الوطن يعاني منها حتى اليوم، فالانتصار على الجنوب أوجد قضية جنوبية ساقتها إلى مستوى وواقع آخر تماماً ليت أنه جنوبي خالص، لكنه تحول إلى ارتماء وارتهان للخارج الذي يطمع في الجزر والموانئ والأرض اليمنية، كما نرى هذا بالنسبة للإمارات والسعودية..
والخلاصة.. إنه مع هزيمة البيض علي سالم وقواه برزت عناوين أخرى من خلالها تم وأد الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية والوصاية على أحزاب والهيمنة على مقدرات الاشتراكي الذي كان يمثل توازن قوى سياسية تحرس قِيم الديمقراطية.. مع هذا التواري برز الصوت الواحد والرأي الواحد والتملك الواحد، وتحولت الأجندة الوطنية من تطور سياسي وحزبي إلى تجاذبات رساميل كبيرة وهائلة جعلت من الحزبية حصان طروادة لها للوصول إلى مبتغاها..
ولعل التعالي على الواقع ومحاولة التفرد في صياغة مستقبل وطن خارج الأطر الجماهيرية وإقصاء القدرات السياسية والفكرية من مواقع مهمة والاعتماد على الاسرة والقبيلة بين الفرقاء بعد تحولات صيف 1994م قد أدى إلى مسار آخر عند أول رغبة في تصفير العداد الذي صرح به قيادي مؤتمري منح المشترك آنذاك قوة إضافية لمناوءة السلطة، وجعلها تعيش صراعات أسرية بينية تتحكمها أطماع وأهواء ورغبات الربح في الثروة والسلطة والقوة.. هذا كان مبعث إيقاظ جماهير المشترك ليخرج دفعة واحدة يسير في فلك ثورات الربيع العربي والشعب يريد إسقاط النظام، وبغض النظر عما كان مستوراً وغير مصرح به لدى قيادات المشترك ورغبتها في قهرية الآخر والاستحواذ على السلطة، فقد دخل الجميع نفق المؤامرة على الوطن وعلى أنفسهم وعلى المستقبل أيضاً..
لقد كانت أحداث 11 فبراير لدى الشباب سلمية وبيضاء، لولا القوى التي كانت جزءاً من النظام آنذاك تسللت إليها وتسلقت عليها وعبثت بهذه التطلعات وأجهضتها بتهورها في السعي إلى الانتقال بالحكم من وراثة كانت ستتشكل، إلى وراثة أخرى لذات القوى التي تآمرت على الاشتراكي إبان حرب صيف 1994م؛ وهكذا لم يتأسس وعي وطني وفق مقتضيات الحاجة والتطور والانتماء إلى العصر. فالقوى اليمينية أصابها الغرور وأخذت في تماديها تستحوذ على أركان الدولة، وأمام هذا كان ثمة محور يتشكل معه أنصار الله برز بعنفوان وقوة في 21 سبتمبر ليطرد تلك القوى التي أزَّمت المشهد اليمني ويرثها كاملة ويردها إلى ذات المربع معارضة بخفي حنين وفي المهجر، لتتحول القضية الوطنية خارج السياق الوطني رهن قوى وتجاذبات دول أجنبية وتحالف وعدوان مقيت، وتصير التعددية السياسية أدوات لا ولاء ولا ايديولوجيا لها، ومجرد أداة لإرهاق وطن وارتزاق.. ولن نأتي على الإرهاصات التي أدت إلى ذلك ولا إلى الحوار الوطني ومخرجاته العصية على التنفيذ والتي كانت أحد أسباب تفجير الوضع لأن تطبيقها يحتاج إلى مجتمع سويسري؛ بمعنى أنها كانت (فوطبيعية) وخارج الوعي المجتمعي وسلوكياته ومكوناته السياسية والاجتماعية.. بمعنى آخر كانت نصوصاً حالمة رومانسية يصعب تطبيقها، لذلك خرجت إلى تشظٍّ وإلى احتراب وإلى مؤامرات من رأس السلطة عبد ربه هادي وحتى التكتلات السياسية والاجتماعية، لنطل على واقع مهزوم مريض مؤلم.. وطبيعي أن نجد الحرب هي العنوان الرئيسي لهذه المخرجات التآمرية وفي مقدمتها وثيقة العهد والاتفاق التي هندست لكل هذا التشظي والطموحات المتعددة للاستيلاء على السلطة والتفرد بها.. واليوم من هذه المعاناة نرى وطناً مزقته قوى لا تؤمن بالتعايش مع الآخر، ولا تقبل به، وتدينه وترمي عليه من التهم الجاهزة ما تجعله محكوماً عليه بالإعدام.. أتحدث هنا عن الكل، فالنظام في صنعاء يراها بوضوح، يتجاوز الآخر ويلقي به خارج الوطني ويحكم ويتحكم بمفرده حتى أنه لا يرى ولا يقبل بمن رفضوا الانجذاب إلى الطرف الآخر، ولم يقبلوا بالتحالف وهو عدوان واضح الأهداف والأبعاد والملامح؛ وتعمد إقصاء خبرات مهمة وكفاءات وقدرات لها تجربتها لمجرد أن لها موقفاً من الصرخة على سبيل المثال.. وإذاً كيف سيكون حال الوحدة اليوم ونحن نعيش هذا التلازم بين الاستبداد والاستفراد على مستوى الداخل؛ والعمالة والارتهان على مستوى الخارج؟.. سؤال إجابته مريرة وقاسية.. والخلاصة أن الحديث عن الوحدة الوطنية ومسارها متشعب وواسع لا يفي به ولا مؤلف كامل.. ولكننا لِماماً أتينا على النزر من تشكيلات الراهن وما يشي به في المستقبل، وهو من وجهة نظري مفزع ومرعب؛ سيما إذا لم نجد تنازلات للوطن ووحدته ومستقبله، وحاول كلٌّ أن يرث الأرض ومن عليها ولم يمنح فرصة للباحثين والدارسين للقيام بدراسات لمعالجة أساليب الحكم.
|