الميثاق نت -

الإثنين, 03-يونيو-2024
كمال البرتاني -
الدكتور عبدالعزيز بن حبتور في أعماله الكاملة يجسّد المثقف الديناميكي الملتزم بقضايا الواقع ونبض الحياة، ويميلُ - رغم أطروحاته العلمية - ليكون جزءاً من النخبة المتصلة بالجماهير والمتفاعلة معها، لا النخبة المنعزلة داخل أُطر النظريات، أو التي تراقبُ حركة التاريخ من الأبراج العاجية.


*قصيدة حب في زمن الحرب

وزمن إصداره الأعمال الكاملة - وهو رئيس للحكومة في فترة العدوان على اليمن- يقدم دروساً بليغةً لليائسين والكسالى، ومن أقنعوا أنفسهم بأننا نعيش مرحلةً برزخيةً لا ينضُجُ فيها حلمٌ ولا يتحقّق إنجاز؛ كأنه يقول لنا إن الوقت الذي تتمدد فيه الهموم ويضيّعه التسويف، يمكن أن يُقتطعَ جزءٌ منه للمضي في تنفيذ المشاريع المؤجلة والخطط التي نرسمها وننقّحها وننقّيها من شوائب الإحباط، ثم نتركها كبناءٍ من الرمل على الشاطئ، سرعان ما يبتلعه المدّ..
كما أن التوقيت يجعل هذه الأعمال الكاملة قصيدة حبّ في زمن الحرب؛ وربما تكون أطول وصيةٍ لنا وللأجيال القادمة، من رجل دولةٍ لم يكن يضمن حين يخرج من البيت أن يعود إليه، خصوصاً أنها - بمجلداتها المختلفة من حيث الحقل العلمي والنوع الكتابي- تتمحور حول اليمن وما يتصل به من قضايا الإقليم والعالم، وهو الوحدوي الذي تصب في قلبه وديان هذه البلاد، وتتصل بأوردته شعابها وسُبلها.


*قاعة مرايا

قبل الكتابة عن أعماله الكاملة، قرأتُ آراء وتعليقاتِ عددٍ كبير من الأدباء والمثقفين والأكاديميين ورجال السياسة والاقتصاد وغيرهم، وشعرتُ كأني دخلت قاعةً مليئةً بالمرايا ذات الأحجام المختلفة، تعكس كلُّ واحدةٍ منها جزءاً أو جانباً من سيرة الدكتور وإنجازاته،
كما شعرت أن كل شخصيةٍ تقدّمُ عزفاً منفرداً على آلةٍ مختلفةٍ، لكنها جميعاً تؤدي لحناً واحداً هو (الانبهار):

- سياسيون انبهروا بقدرته على حماية روحه وفكره من عوادم السياسة، والخروج من متاهاتها - بين وقتٍ وآخر- بإنجازٍ مهم ودرسٍ جديدٍ وفكرةٍ مثمرة.
- عسكريون منبهرون بالتزامه الصارم، وانضباطه في أداء العديد من الأدوار المرتبطة بمسؤولياته واهتماماته وشؤونه الخاصة.

- أكاديميون مبهورون بموسوعيته، وبأنه لم يسجن نفسه في قُمقم التخصّص، وإنما امتلك أجنحةً تمكّنه من التنقل بين الزهور- على مذهب النحلة التي تُحوّل رحيق الصبّار إلى عسل، تلك الأجنحة التي يحلّق بها - أحياناً - في ارتفاعات عالية تمنحه إطلالاتٍ على مشاهد بانورامية لأحداثِ التاريخ وقضايا الحاضر، والدروبِ الآمنةِ للعبور إلى المستقبل.

رسم العديد ممن قرأوا أعماله الكاملة علاماتِ تعجبٍ كثيرةً، حول غزارة الإنتاج وتنوّع المضمون، ووحدة الهدف، وحول جمع الدكتور ابن حبتور بين موضوعية الأكاديمي ومرونة الإداري، وبصيرة المثقف، وتوظيف كل ذلك لدعم السياسي/ رئيس الحكومة؛ كي يستطيع أن يقول ويفعل، وكي يصبح رجلَ وفاقٍ عندما تقضي بذلك الضرورة، وصاحبَ مواقف صارمةٍ حين لا يرى في الأمر فسحةً للأخذ والرد.

تنوعت الأقلام وخلفياتُ أصحابها وتعددت زوايا اهتمامهم؛ وبينهم مناضلون وقادة أحزاب كالشيخ صادق أمين أبوراس- رئيس المؤتمر الشعبي العام، ومنهم مسؤولون، بعضهم لديه الوقت والحافز للقراءة، وآخرون فهموا محتوى الأعمال الكاملة باللمس. منهم من يجيد الكتابة ومن يتعكز بالكلمات، هذا يجامل قاصداً وذاك يتجمّل بالقليل من الكلام والكثير من التواضع، والجميع في حفل تكريم يهتفون ويصفقون، وليس في بال أحدهم أن يحاور المؤلف أو ينتقده، (وهذا ما انسقت إليه؛ لأن محاورته لا تتَأتّى من القراءة الأولى).


*إجماع

ولعل أهم ما يربط تلك الشهادات والآراء هو (الإجماع) على تقدير المؤلف ومكانته العلمية، وإخلاصه الذي جعله يسخّر علمه ويكرّس جهده لوطنه؛ وكان بإمكانه أن ينحني أمام العاصفة، ويبحث عن ملاذٍ آمنٍ في أي دولة، ثم يلقي على هذا البلد المنكوب تحيةً أخيرةً من نافذة الطائرة، بالألمانية Auf Wiedersehen أو غيرها من اللغات.


*سيرة ملهمة

البعض اتكأ على معرفته بالدكتور ابن حبتور؛ فسيرة حياته ملهمةٌ أيضاً؛ خصوصاً بنقلاتها المثيرة، مثلاً:
- من شبوة (مروراً بأبين وعدن) إلى برلين ولايبزيغ في ثمانينيات القرن الماضي، وهي رحلة إنجازٍ علمي ونقلةٌ حضاريةٌ في الوقت ذاته؛ دفعته للاهتمام - في حياته العملية وفي أعماله الكاملة - ببناء الإنسان، وبكيفية ردم الفجوة التي تفصل شمال الكرة الأرضية الغني المستقر، عن جنوبيها الفقير الغارق في وحل الأزمات والعالق في مسببات الحروب.
- ثم من عدن إلى صنعاء (يوليو 2015م)، في رحلة تشبه - في مآلها والقليل من تفاصيلها - قصص نجاة شخصياتٍ تاريخيةٍ من خطر الموت وخزي العمالة، أذكر منها (الملك المنصور محمد بن أبي عامر المعافري) في الأندلس.

كما أن رحلة حياته، من صرخة الميلاد في قرية الغرير بمحافظة شبوة، إلى صيحة النصر في صنعاء، تذكّرنا بواحدٍ من أكبر رموز اليمن هو (الملك سيف بن ذي يزن)، الذي ولد ونشأ في شبوة، ثم حقق الانتصار التاريخي في صنعاء، لليمن كلِّه وباسم اليمنيين جميعِهم.


*من قراءة التاريخ إلى صناعته

ولعل قبول الدكتور عبدالعزيز بن حبتور رئاسة حكومة الإنقاذ عام 2016م، هو أهم قرار اتخذه؛ فقد نقله من قراءة التاريخ إلى المشاركة في صناعته.
مع استقراء تعقيدات الواقع يومها، كان من المستحيل توقُّعُ أي نسبةِ نجاح:
- مسؤولياتٌ في حالة سيولة
- مؤسساتٌ تحتاج أجهزةً تعويضيةً كالمعاقين
- موارد شبه منعدمة
- عزلةٌ إقليمية ودولية
- بيئةُ عملٍ مفخخةٌ كحقل ألغام
- إضافة إلى خطر البقاء تحت القصف، وفي مواجهة الإرهاب الإعلامي وسهام التخوين والتخويف.
ومع ذلك، جاءت النتائج معاكسةً لمقدماتها، لكنها وثيقة الصلة بالجذور التي جاء منها الدكتور العزيز، والفكر الذي يحمله، وبانتمائه الكامل لليمن، وإيمانه أن مقبرة الغزاة بالأمس، لن تكون الحضن الدافئ للأعراب الطارئين اليوم.
كل من كان يشفق عليه آنذاك صار يغبطه الآن؛ لأنه قاد الحكومة التي تمكنت من:
- المحافظة على وجود مؤسسات الدولة وفاعليتها؛ رغم شح الإمكانات
- إلحاق الهزيمة بالتحالف السعودي الإماراتي
- إعلان الحرب على الكيان الصهيوني نصرةً للأشقاء في قطاع غزة
- ومواجهة العدوان الأميركي البريطاني.
قد يجادل البعض أن كثيراً من القرارات طُبخت بنارٍ لم يوقد شعلتها، وبوصفاتٍ لم يختر مقاديرها، لكنها في الأول والأخير محسوبةٌ لحكومته ومنها ما هو ممهورٌ بتوقيعه.. وما دام للنصر آباء كثرٌ فهو واحدٌ منهم.


*حوارات ولقاءات تلفزيونية

منذ العام 2018م وحتى كتابة هذه السطور، أعددت حوالى 12 لقاءً تلفزيونياً خاصاً مع الدكتور عبدالعزيز بن حبتور، بُثت على شاشة قناة اليمن اليوم، وهي تؤكد أهم ما يمكن الخروج به من قراءة الأعمال الكاملة..
في البداية، كنا نذهب إليه بقليل من الرهبة التي تبدّدها ابتسامته، وبقليلٍ من التخوفات التي تمحوها أريحيته، وكنت أحتفظ بباقةٍ إضافية من الأسئلة، كمحاربٍ يستعدُّ جيداً؛ لأنه لا يعرف ما الذي سيصادفه من مفاجآت، لكن المفاجأة الوحيدة المتكررة التي واجهناها أن الدكتور لا يقفز على الخطوط الحمراء وإنما يحولها إلى واحات خضراء يسوّرها باليقين .. يجيب بثقة، ويتدفق بدون تلكؤ أو توقف، داعماً آراءه بشواهد التاريخ، مستدعياً الأشباه والنظائر، ومؤكداً موسوعيته وعمق رؤاه وصوابية مواقفه..

والآن أفكر، كيف تمكّن طيلة هذه السنوات من تجنّب مصائد ومصائب الإعلام، رغم أن العدو وعملاءه يَجِدّون في الرصد، والبحث عن الزلّات، ويأخذون خزعاً من أحاديث رجال السياسة الوطنيين محاولين إثبات الأكاذيب وإثارة الفتن..

أيضاً، خلال عملنا في دائرة الأخبار بقناة اليمن اليوم، أحياناً نجد صعوبةً في اقتباس جملةٍ مفيدةٍ لبعض المسؤولين، بينما نحتار ما الذي نأخذ من خطابات وتصريحات الدكتور عبدالعزيز بن حبتور وما الذي ندَع.. ومع مرور الوقت وتراكم التجربة، أصبح محرٌرو الأخبار والمراسلون يعرفونه ويغرفون من نهره؛ واثقين أنه حيثما أمطر نفع.

أعرف أني أطلت، ورغم ذلك فهذه الانطباعات غير الكاملة تبدو مقدمةً لقراءةٍ أكثر عمقاً، ربما أنجزها في المستقبل القريب.



* عضو اتحاد الأدباء والكُتَّاب اليمنيين – رئيس دائرة الأخبار في قناة اليمن اليوم
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 03:07 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-66171.htm