د. طه حسين الهمداني - منذ موجة ما سُمي بالربيع العربي وسعي أطراف سياسية في البلاد للانقلاب على السلطة الشرعية بهدف الوصول إلى الحكم بالقوة وبأي وسيلة، جاءت جريمة مسجد دار الرئاسة لتشكل منعطفاً خطيراً في مسلسل الأحداث في بلادنا، ومنذ ذلك اليوم المشؤوم واليمن تغرق في بحر من الدماء والدمار في مربع العنف والحقد والصراعات المذهبية والجهوية والمناطقية..
نعم، منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا واليمن يتعرض للتشظّي ويسير بلا رؤية ولا أمن أو سكينة، وبدون حدود بعد أن تقاسمت أرضه كيانات وجماعات محلية وعبثت قوى إقليمية ودولية في بحاره وخلجانه وجزره..
إن جريمة جامع دار الرئاسة لم تستهدف حياة رئيس الجمهورية الأسبق علي عبدالله صالح بشخصه فحسب، وإنما استهدفت اغتيال كيان الدولة بهدف إسقاطها والسيطرة على مؤسساتها دون أن تمتلك رؤية لإدارة الدولة أو الشرعية الدستورية..
نتج عن هذا الفعل الإجرامي خلل في التوازن السياسي، إضافة إلى شرخ اجتماعي أصاب البلد في مقتل، ودمر حياة المجتمع وعلاقاته وتنوعه والعلاقة الوثيقة بينه وبين الدولة ونظامها الجمهوري، خاصة وأنه حدث في زمان ومكان مقدسين لدى الناس ولدى تشريعات الأمم المتحدة..
إن ما وصلت إليه اليمن اليوم كان نتيجة طبيعية لذلك العمل الإرهابي بحسب وصف الرئيس الراحل له، إذ أن اللجوء إلى العنف بدلاً من اعتماد الحوار وحرية التعبير عن الرأي بالوسائل السلمية كأسس لحل الخلافات، مهَّد الطريق للوصول إلى السلطة عن طريق العنف وما نتج عنه من انتهاكات للتجربة الديمقراطية وآلياتها السلمية لتداول السلطة، والتي كان شعبنا اليمني قد اعتمدها وخاض تجربتها من خلال الانتخابات النيابية والرئاسية والمحلية، التي كانت محل إشادة وإعجاب عديد من المنظمات الدولية المعنية بالديمقراطية والشفافية والرقابة على الانتخابات..
إلا أنه رغم إدانة الجريمة من القوى السياسية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الحقوقية الدولية، وكذلك مجلس الأمن الدولي الذي دان الحادث وأصدر قراره رقم (2024) باعتباره جريمة إرهابية، إلا أن ما حدث من مسلسل الجرائم التي توالت في اليمن منذ العام 2011م وما زال مستمراً حتى اليوم، مع انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان والقِيَم والأعراف، يفرض وضع حد لها ويجعل من الضروري محاسبة مرتكبيها لأنها جرائم لا تسقط بالتقادم، وتصحيحاً لعجز حكومة الوفاق الوطني في المرحلة الانتقالية من محاكمة مرتكبيها بعد القبض عليهم..
إن جريمة جامع الرئاسة تمثل وصمة عار ليس فقط لمن دبرها ونفذها، وإنما إساءة لليمن وشعبها الذي اتسم بالتسامح والاحترام لقِيم الحوار ومداميك الديمقراطية الناشئة التي كانت قد قطعت شوطاً في غاية الأهمية، ويجب أن يكون هذا اليوم يوم تذكير لليمنيين بأهمية مواجهة قوى التطرف والصراعات المذهبية والجهوية وسياسات الإقصاء وحقوق المواطنة المتساوية حتى لا نكرر الأخطاء والمعاناة ولكي نبدأ صفحة جديدة في تاريخ اليمن تليق بتاريخه وتراثه.
|