حسن إسميك - ما القرآن؟
هذا سؤال طرحه البشر، مسلمين وغير مسلمين، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ولم يزالوا مختلفين فيه، والخلاف فيه محمود على عكس المظنون. فالقرآن الكريم، وفي عظمته وجلاله وقدسيته، أكبر من أن يحيط به فرد وأسمى من أن تبلغه حدود المعرفة البشرية. ومع ذلك يظن أغلبنا أنه يعرف ما القرآن! وللأسف تتزايد الثقة بمعرفة القرآن طرداً مع الجهل به. وإني لأخال أن جهلنا بالقرآن الكريم هو أكبر من جهل سابقينا إذا ما أخذنا بالحسبان نسبة عصرنا إلى عصرهم، خاصة وأنا وُلدنا على وجود المصحف بين ظهرانينا واعتدناه وألفناه، نقرأ منه على أمواتنا أكثر مما نقرأ على أحيائنا، نستمع له فنطرب لصوت القارئ وننسى تدبره والتفكر في معانيه ومقاصده، حتى صار اعتيادنا على القرآن وقربنا الشديد منه أحد أهم أسباب ابتعادنا عنه وهجراننا له. وما كان لهذه المفارقة أن تحدث لو أننا التزمنا بما أمرنا به قائله عزّ وجل حين قال في سورة الأعراف (204) منه: (وَإِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ونحن اليوم لم نفرط في الإنصات الذي يقتضي الامتثال فحسب، بل إن أغلبنا يسمع ولا يستمع، وشتّان بين الحالين.
ما القرآن؟ سؤال أجاب عليه أحد كفار قريش جواباً ما زالت الآثار تتناقله حتى يومنا كإحدى أجمل شهادات خصومه فيه، والشاهد هو الوليد بن المغيرة حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه يطلب منه أن يقول قولاً يظهر فيه أنه منكر له، أو كاره له، فقال الوليد : وماذا أقول؟! فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ما يحبّون! قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: (هذا سحر يؤثر)، فجاءه الرد الإلهي في أعظم صور البيان والبلاغة مقروناً بالتهديد والوعيد، ذلك لأنه عرف الحق فأنكره، فقال تعالى عنه: (كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً ﴿16﴾ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴿17﴾ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴿18﴾ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿19﴾ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿20﴾ ثُمَّ نَظَرَ ﴿21﴾ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴿22﴾ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ﴿23﴾ فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴿24﴾ إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴿25﴾ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴿26﴾).
وقع الوليد في أعظم خطايا النفس البشرية؛ خطيئة الكبر والغرور، وظلم نفسه وقومه حين طعن في الحق ليسترضيهم، وأنكر أن يكون القرآن من عند الله ليكون إنكاره هذا دليلاً على أنه من عند الله، وذلك حين وقع الوليد كما وقع أبو لهب أيضاً في المعضلة ذاتها، وكان يكفيهما أن يؤمنا بالقرآن ليثبتا أنه ليس من عند الله، إذ كيف سيتوعد الله بالعذاب والجحيم من يؤمن به؟
ما وراء تعريف القرآن
القرآن كلام الله أنزله على نبيه باللغة العربية متضمناً شريعة الإسلام وعقيدة التوحيد ومكملاً للرسالات السماوية السابقة عليه، فهو آخر الكتب منزلاً على آخر الأنبياء، فيه أحكام وقصص وشعائر وعبادات وأوامر ونواه وقيم أخلاقية، وفيه صراط الإيمان وأركانه الرئيسة وغيبياته الكبرى؛ الخلق والموت والحساب والجنة والنار.
ولأننا وُلدنا في الإسلام وكبرنا عليه ولم نعرف حيرة الشرك بالله، فقد ألفنا كتاب الله حتى اختلطت علينا بعض الأمور حوله دون أن ندرك ذلك أو نتنبه له، ومن أهم هذه الأمور أننا صرنا ننظر للقرآن وكأنه كتاب أرسله الله لنا نحن المسلمين تماماً كما ينظر غير المسلمين إليه، فيقولون لنا: قال كتابكم.. وذكر كتابكم.. حتى بتنا لا نراجع أنفسنا أبداً في العبارة التي نفترض صحتها ونسلم بها دون نقد أو تمحيص، أقصد عبارة (أن الله أنزل القرآن للمسلمين/أو على المسلمين/ فقط).
وعن هذا الخلط السابق نتج خلط آخر أكبر وأخطر يتعلق بتفسير القرآن الكريم، إذ طالما أنه كتاب المسلمين ومنزّل على المسلمين، فللمسلمين وحدهم حق تفسيره، ثم مع الزمن أضيفت، إلى جانب شرط أن يكون مفسر القرآن مسلماً، شروط أخرى كثيرة جداً، حتى أوشكنا اليوم على إغلاق باب التفسير إغلاقاً نهائياً لولا بعض الجهود الفردية، والتي رغم قيمتها، ليست كافية كي نعطي هذا القرآن الكريم حقه بقدر ما نستطيع، وبقدر ما يجب علينا كمؤمنين به.
وإذ أعتقد أنه لا يمكن لأحد أن يعرّف القرآن تعريفاً تاماً وكاملاً، يبقى ما أوردته أعلاه كافياً بقدر جزئي لكي نستوضح بعض أهم ما ينبغي أن نأخذه بالاعتبار في سبيل أن تكون معرفتنا بكتاب الله أكثر نفع وقيمة، فنستطيع أن نجدد النظر إليه وندرك عظمة وجوده في حياتنا بعدما ألفنا هذا الوجود واعتدناه، علّنا نكون بذلك أقرب إلى الامتثال له، وإلى الاستجابة إلى ما دعانا الله إليه فيه.
القرآن من ناحية ما ينبغي أن يعتقده المؤمنون به، هو أعظم وأقدس ما على الأرض، هو كلام الله الذي لا تبديل له، وهو الحق الخالص والتام الذي لا تأتيه شبهة الباطل على أي وجه من الوجوه، وهو المعجزة الخالدة بإطلاق قبل أن يخلق الله الخلق، والباقية بإطلاق بعد أن يفنيه، ومع أن الله أنزل كلماته وكتبه قبل القرآن، فإنه ميّزه عنها بأن جعله آخرها والمهيمن عليها وخصّه دونها بحفظه وجعله صالحاً لكل البشر في كل زمان ومكان.
والقرآن طاب إلهي للناس جميعاً، فهو لا يخص المسلمين إنما يشملهم، ولا يقتصر الخطاب فيه على المؤمنين بل يتضمنهم، فلا يُخاطب فيه المسلمون أو الذين أسلموا، إنما المخاطب فيه المؤمنون والذين آمنوا أحياناً، كما يخاطب فيه الذين كفروا أحياناً، أو يشملهما خطاب واحد أحياناً ثالثة موجهٌ للناس جميعاً، أو لبني آدام دون استثناء أو تخصيص.
ولأنه لا يجوز أن يبلِّغ كلمات الله لخلقه إلا مؤمن بها، فقد اختار الله رسله وهداهم للإيمان ثم أمرهم بتبليغ كلامه، ولذلك فالقرآن ليس مخصصاً للمؤمنين ولكنهم هم المخصصون بتبليغه بعد أن انقطعت الرسالات السماوية وختم الله بمحمد عليه الصلاة والسلام رسله، فهل نتصف حقاً بأننا أهل لمهمة التبليغ هذه ونحن ما نحن عليه من علاقتنا بالقرآن اليوم؟
القرآن الكريم حين كان إرثاً إنسانياً عاماً
إذن.. لم يخترنا الله كمسلمين لنبلّغ القرآن للبشرية فحسب، بل اختياره لنا يجعلنا مكلّفين بذلك أيضاً، وهذا ما ينبغي أن يكون، أما ما هو كائن فعلاً فليس أننا مقصّرون عن تبليغه فقط، بل لقد أصبحنا عثرة تسد الطريق بين كلام الله وبقية خلقه، إذ بدل أن يُحكم علينا من خلاله بات يُحكم عليه من خلالنا نحن، وقد صار شائعاً أنه كتاب خاص بنا كمسلمين ولا يتوجَّه لأحد سوانا. لاحظوا مثلاً حين يُسأل غير المسلمين عن القرآن، وخاصة في الغرب، إن كانوا قد قرأوا فيه أو رغبوا بالتعرف عليه، فإن أغلب الأجوبة تأتي بالنفي بسبب خشية غير المسلمين من هذا الكتاب وتوقعهم أنه مليء بالعنف والقسوة والإرهاب قياساً على صورة الإسلام لديهم وحالة الإسلاموفوبيا التي لم يُعرف لها مثيل عبر التاريخ.
قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وكلفه بتبليغ القرآن واصفاً إياه بأنه رحمة وهدى وموعظة وبشرى، وأن فيه خلاص الدنيا وخلاص الآخرة، ومع ذلك فالنبي الذي بُعث في قومه الذين يعرفون صدقه وأمانته، وخاطبهم بلسانهم الذي يفهمونه، لاقى من تكذيبهم وإنكارهم ما لاقاه، فصبر وتحمل في سبيل ذلك الكثير من الأذى، وكان حريصاً على هدايتهم يدافع عنهم ويدعو لهم ويسأل الله أن لا يعذبهم لأنهم جاهلون، حتى لما أصبح للإسلام دولة في ظله، وجيشٌ يدافع عنه لم ينقطع النبي الكريم عن الدعوة ولم يعتدِ على غير المسلمين بسبب عدم إيمانهم، (إنما أجيزت الحرب ضدَّهم لردِّ عدوانهم، سواء لينتقموا من المسلمين، أو ليصدوهم عن الدعوة لله)، فكانت أقوال النبي هذه وأفعاله من أهم أسباب هداية الناس للقرآن الكريم والدين القويم، فهل نحن مقتدون اليوم بسنته وطريقته في تبليغ كلام الله؟
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حمل المسلمون كتاب الله وحملهم لينتشروا في بقاع واسعة من الأرض، فاصطدموا بأقوام وحضارات لم يكونوا على علم بوجودها، وانفتحوا على ثقافات وعلوم ومعارف قديمة لأمم لديهم كتب سماوية، وأمم أخرى لديهم كتب أرضية في علوم الحكمة والفلسفة والطبيعة، فأقبلوا على هذه العلوم ينهلون منها ويقاطعون بينها وبين ما لديهم، ويعيدون إنتاجها بالنقد والتطوير بناء على معيار الحق الذي في أيديهم، أي كتاب الله، فأخذوا بما يوافقه وصححوا ما يخالفه ووفقوا بينه وبين ما يختلف عنه.
ولم ينجح المسلمون الأوائل في التوفيق بين القرآن الكريم وما صحّ من علوم الآخرين إلا لأنهم عملوا على تفسيره وفهمه مرة بعد أخرى خلال عهود طويلة مرَّت على نزوله، ولم تكن هذه هي الحاجة الوحيدة أو الأولى لتفسير القرآن، بل سبقها دخول غير العرب في الإسلام، ورغبتهم بالتعرف عليه وفهم الهدي الذي فيه.
من خلال هذه التشاركية بين الوحي من جهة، والتراث الإنساني العلمي والفلسفي حتى ذلك العصر من جهة أخرى، صاغ المسلمون من العرب وغيرهم نموذجاً حضارياً رائداً مثَّل مرحلة مهمة من مراحل التقدم الإنساني في كافة أنحاء الأرض، ولأن القرآن الكريم كان العنصر الرئيس في تكوين ثقافة هذه الحضارة فقد انتقل تأثيره عبرها إلى حضارات الأمم الأخرى، سواء بشكل مباشر حين دخلت الشعوب الأخرى في الإسلام، أو بشكل غير مباشر حين تعرفت على ثقافته وعلومه من خلال الترجمة والتواصل الإنساني. |