عبدالرحمن مر اد - إن أزمة العقل السياسي العربي تنحصر في ثلاثة محددات هي: القبيلة، الغنيمة، العقيدة.. كما عبر عن ذلك الجابري في كتابه "العقل السياسي العربي"، ومن الغنيمة والعقيدة تجلت أزمة القِيم التي برزت بشكل جلي وواضح منذ "السقيفة" ووصلت ذروتها في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، حيث انشغل الناس في زمنه بالدنيا وتنمية الأموال، فزاد الأغنياء غِنى والأقوياء قوة ولم تتحسن أوضاع المستضعفين، وكان لميل عثمان إلى ذوي قرباه وإيثاره لهم في الثروة والسلطة أثر في خروج عبادة بن الصامت، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر.. منكرين سوء الفعل ومحذرين من عاقبته التي كانت اغتيالاً أشعل فتنة ظلت متقدة الأوار في مراحل التاريخ المختلفة؛ وهو الأمر الذي يضعنا أمام سؤال تاريخي كبير يبحث عن إجابة له شافية من بين تجاعيد الأزمة السياسية الحالية التي تعصف بالأمة أجمع وباليمن على وجه الخصوص وذلك في سياق من التلقي والاتصال كوسيلة تفاعل أساسية بين الجماعات للتحكم بالأنظمة المادية والرمزية في سياقها التاريخي والثقافي ومن حيث تقبل الحدث وإعادة إنتاج دلالته في وسط زمني مغاير لتشابه الأسباب والدوافع..
لذلك فالقول بالخروج من وعي المحددات الثلاث ومن ظلال المحددات التي أوصلتنا إلى أزمة القِيم التي بدت جلية وواضحة في جل المسلكيات وفي الخطاب السياسي الذي تفاعل مع الحدث السياسي في صورته المقروءة في الواقع المعيش يتطلب وعياً حداثياً عصرياً مغايراً..
وحين يتحقق الوعي الحداثي تصبح هناك ثورة ذات هوية حضارية وإيمانية وذات قيمة ومضمون وشكل، تتجاوز من خلال المضمون والمعنى والقيمة حالة الفراغ التي كانت عليها الفوضى الخلاقة – أقصد فوضى فبراير 2011م - وحالة العدمية التي قدمتهم كثورة مفقودة الأثر في ظل ظروف كل القِيم وتباعدها وتكتل اليائسين من المستقبل..
وما حدث في 2011م كاد أن يشبه ما حدث في منتصف القرن العشرين، فالنظام الثوري الذي جاء منتصف القرن العشرين في اليمن لم يأتِ كضرورة أجتماعية أو ثقافية بل كان طارئاً وأحدث تصادماً مع القيم الاجتماعية والثقافية فكان صراع السبع السنوات التي أعقبت الثورة في عقد الستينيات من القرن العشرين صراع هوية ووجود وانتهى ذلك الصراع بشعور القوى الثورية بالانكسار، مما عزز لديها الشعور المضاد للحالة الانكسارية.. ليفضي ذلك الشعور إلى حركة 13 يونيو 1974م التي لم تستمر كثيراً، إذ تم وأدها في 11 أكتوبر 1977م من قِبَل ذات القوى التي رأت فيها تغايراً يهدد وجودها على مسرح الحياة؛ وظل مثل ذلك الصراع قائماً تجلى في مقتل أحمد حسين الغشمي ومحاولة الانقلاب الفاشلة في أكتوبر 1978م على النظام حينها؛ وفي الفوضى واللااستقرار الذي أحدثته الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى، كما تجلَّى في الصراع على الحدود بين شطري الوطن حينذاك، ومثل ذلك أو قريب منه حدث في جنوب الوطن وإنْ كان يأخذ غطاءات متعددة أخرى بسبب ما أحدثه الاستعمار من تحول في البني الاجتماعية وانزياح في الوعي..
وقد كان من نتائج تلك الأحداث والصراعات، التشوهات التي كانت من معالم المرحلة الماضية،
إذ يمكننا القول إن ذلك الصراع أدى إلى إضعاف روح المواطنة، وانقسام الهوية، والتباس الوعي الاجتماعي، وأضحى الوطن على إثر ذلك غنيمة تتقاسمها الجماعات المنسجمة مع بعضها، كما نتج عن ذاك الصراع الفوضى والعنف والفراغ الأمني والتدمير، وسبّب التدهور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والإحباط النفسي، والنكوص الحضاري، وعمل على تشويه الإنسان والمجتمع والدولة، ونفس تلك النتائج هي ذاتها التي تركها الصراع والفوضى الخلاقة عام 2011م، وهي نتائج وإشكالات حقيقية وإرث لا بد لنا من الوقوف أمامه ومعالجته حتى نؤسس للمتغير الثقافي والسياسي والحضاري الجديد..
ولعل اشتغال القوى السياسية على السلام - كما يتجلى بين الفينة والأخرى وهو خيار لا بد منه سواء أكان اليوم أو يحدث غداً - وكذا الأمم المتحدة على الحوار والسلام – ولو مثل ذلك يحدث للاستهلاك الإعلامي ليس إلا - يجعل كل الأطراف المتضادة أمام مفردة "السلام" كقضية وطنية وليس كشعار، واشتغال كل الأطراف على مبدأ السلام يفضي بالضرورة إلى القول بوجوب إعلان المصالحة مع التاريخ، ومن ثم نفي التاريخ لتبدأ مرحلة تاريخية جديدة من معالمها القول: بالفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية) وإعادة بناء المؤسسة العسكرية على أسس وطنية، وتكون من ضمن مهامها حماية السيادة الوطنية والانتصار للدستور وحماية شرعيته، بحيث تصبح مؤسسة وطنية محايدة، والانتقال من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني، ومن نظام الدائرة الانتخابية إلى نظام القائمة النسبية، وإعادة هيكلة الدولة والمؤسسات بما يتوافق والتطورات العصرية، وبحيث يصبح الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة تابعاً للسلطة التشريعية، والهيئة العامة لمكافحة الفساد تابعة للسلطة القضائية بما يحقق حد السلطات لبعضها البعض، وتعديل قانون المجالس المحلية بحيث يمنع التداخل بين التنفيذي والرقابي، وفصل المجلس المحلي أو البلدي عن المجلس التنفيذي، وبحيث يتحول أمين عام المجلس إلى رئيس للمجلس المحلي أو البلدي، ويصبح المحافظ مع مكتبه التنفيذي مسئولاً أمام المجلس المحلي ومساءلاً من قِبله؛ والعمل على تطوير النظام الاجتماعي بحيث تتحول مصلحة القبائل إلى مجلس للشيوخ، له فروع في المحافظات وله اجتماعات دورية ومن مهامه الوقوف أمام ظاهرة الثأر، ومساندة الأجهزة الأمنية في تحقيق الأمن والسكينة، والإسهام في عصرنة البنية الاجتماعية وبما يكفل خروجها من وعي الغنيمة إلى الوعي الانتاجي وتطوير نظمها وأدواتها وتجديد عُرفها بما يتوافق ومظاهر العصر الحضارية، وترسيخ دولة المواطنين وهو المشروع الحضاري الذي اشتغلت عليه حركة (13 يونيو) وكانت له محاسنه ونجاحاته مع ما عاناه من ضيق أفق وقيد في الحريات حسب تجليات المرحلة الزمنية ومناخاتها الوطنية والإقليمية والدولية..
فالسلام إذاً لم يقف عند الإشكالات التاريخية إنما هو سلام مؤقت يفصّله التفاوض على مقاسات المتصارعين، فهو يخدم الحاضر لكنه يلغم المستقبل.. |