الميثاق نت -

الإثنين, 29-يوليو-2024
حسن نافعة* -
في ساعة متأخرة من مساء يوم الأربعاء م17/7/2024، صوَّت الكنيست على مشروع قرار "يعارض إقامة دولة فلسطينية غرب الأردن"، بذريعة أن إقامتها "تشكل خطراً وجودياً على "إسرائيل"، وستؤدي في الوقت نفسه إلى إدامة الصراع مع الفلسطينيين وزعزعة الاستقرار في المنطقة"..

قدم هذا المشروع زئيف إلكن، أحد نواب "اليمين الرسمي"، وصوّت لمصلحته 68 نائباً يمثلون أحزاب الليكود و"شاس" و"المعسكر الوطني" و"إسرائيل ييتنا" و"يهوديت هتوراة" و"عوتسما يهوديت" و"الصهيونية الدينية"، إلى جانب حزب "اليمين الرسمي" الذي ينتمي إليه مقدم مشروع القرار، وصوّت ضدّه 8 نواب فقط، جميعهم على الأرجح من أصول عربية، فيما انسحب بقية النواب من جلسة التصويت، كي لا يفسر حضورهم وامتناعهم عن التصويت نفسه بالموافقة الضمنية على إقامة دولة فلسطينية، فهل لهذا القرار قيمة حقيقية، سواء على الصعيد القانوني أو السياسي؟

للإجابة عن هذا السؤال، ربما يكون من المفيد أن ننسج هنا على منوال رجال القانون، حين يميّزون بين القرارات "المنشئة"، التي يترتب عليها إلغاء أو تعديل أو إنشاء مراكز قانونية جديدة، والقرارات "الكاشفة"، وهي قرارات تقريرية لا يترتب عليها أي تغيير في المراكز القانونية القائمة بالفعل، لكن ميزتها العملية تكمن في قدرتها على الكشف أو التفسير أو التوضيح..

ولأن القرار المشار إليه لا يدخل أصلاً ضمن صلاحيات الكنيست التي تقتصر على إصدار تشريعات قابلة للتطبيق فقط على السكان الموجودين داخل الحدود المعترف بها دولياً للكيان الصهيوني، فهو باطل من الأساس، ومن ثم يستحيل أن يكون منشئاً لأي أوضاع أو مراكز قانونية جديدة..

قرار إقامة دولة فلسطينية من عدمه ليس مرهوناً بمدى توفُّر الإرادة السياسية لدى سلطة الاحتلال، إنما بمدى توافر الإصرار لدى الشعب المحتل على تحرير أرضه وانتزاع حقوقه غير القابلة للتصرف. صحيح أنَّ الحدود المعترف بها دولياً للكيان الصهيوني ليست واضحة للجميع، وبالتالي لا تزال محل جدل، إذ يرى البعض أنها تقتصر على الحدود المنصوص عليها في قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947م (القرار181)، فيما يرى البعض الآخر أنها تمتد لتشمل الأراضي التي كان الكيان يسيطر عليها عند التوقيع على اتفاقيات الهدنة المبرمة عام 1949م..

في جميع الأحوال، فقد بات من المسلَّم به قانوناً أنَّ الحدود المعترف بها دولياً للكيان الصهيوني لا تشمل الأراضي التي استولى عليها إبان حرب 1967م، وهو ما أكدته وثائق دولية عديدة، أهمها الفتوى التي أصدرتها محكمة العدل الدولية منذ أيام قليلة..

لذا، يمكن القول بكل ثقة واطمئنان إنّ القرار الذي اتخذه الكنيست برفض إقامة دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967م لا يمكن أن يكون منشِئاً لمراكز قانونية جديدة، لكنه يُعد بالقطع كاشفاً لحقيقة النيات الصهيونية تجاه القضية الفلسطينية..

وعندما لا يتجاوز عدد النواب المعترضين على مشروع هذا القرار 8 من أصل 120 نائباً، جميعهم من عرب 48، فليس لذلك سوى معنى واحد، وهو أن المجتمع الإسرائيلي يرفض الاعتراف بوجود شعب فلسطيني، وبالتبعية يرفض تسوية القضية الفلسطينية بالطرق السلمية..

صحيح أن حكومة رابين وقعت على "اتفاقية أوسلو" عام 1993م، لكن تلك الخطوة تمت على الأرجح في سياق عملية خداع كبرى، استهدفت استدراج منظمة التحرير الفلسطينية إلى مصيدة، ودفعها إلى التخلي عن نهج الكفاح المسلح والاعتراف بشرعية قيام دولة يهودية على معظم فلسطين التاريخية في مقابل اعتراف الكيان بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وهو اعتراف ليس له قيمة عملية..

ولأن اتفاقية أوسلو لم تنصّ صراحة لا على وجوب الاعتراف بدولة فلسطينية، ولا حتى على وقف الاستيطان خلال المرحلة الانتقالية، وتنكّرت كلياً لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، فقد كان من السهل على كل من الحكومات التي تعاقبت على إدارة الكيان الصهيوني أن تفسّرها بطريقتها الخاصة، وأن تتفنّن في وضع كل أنواع العراقيل أمام المفاوضات المتعلقة بقضايا التسوية النهائية، كالقدس والحدود والمياه وغيرها من القضايا، وراحت تستخدم هذه المفاوضات كأداة لكسب ما تحتاج من الوقت لمواصلة خطط الاستيطان والتهويد، فلم يحدث مطلقاً، ومنذ التوقيع على اتفاقية أوسلو حتى الآن، أن صرح أي رئيس وزراء إسرائيلي، بمن فيهم رابين نفسه، بموافقته العلنية على قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية..

تجدر الإشارة هنا إلى أن قرار الكنيست رفض إقامة دولة فلسطينية غرب الأردن يعد الأول من نوعه.. صحيح أن الكنيست سبق أن اتخذ قراراً في 21 فبراير الماضي برفض "الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية"، ما يعني عدم معارضته من حيث المبدأ قيام دولة فلسطينية، شرط أن تقام بناء على اتفاق بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، غير أن القصد من إصدار هذا القرار في ذلك الوقت كان تكتيكياً بحتاً، واستهدف عرقلة اندفاع المجتمع الدولي نحو الاعتراف أحادي الجانب بالدولة الفلسطينية..

أما الموقف الحقيقي للكنيست، فكان رافضاً من حيث المبدأ لقيام دولة فلسطينية مستقلة، شأنه في ذلك شأن المجتمع الإسرائيلي ككل، حكومة وشعباً؛ فقبل 7 أكتوبر الماضي، كان الاعتقاد السائد في الكنيست هو أن الوقت ليس ملائماً للإفصاح رسمياً عن رفض قيام دولة فلسطينية، وأن اتخاذ قرار صريح بهذا المعنى يمكن أن يعرض الكيان الصهيوني لضغوط شديدة، ما يفسر مواصلته سياسة الغموض والتضليل التي كان يمارسها حتى ذلك الوقت..

أما بعد "طوفان الأقصى"، فقد تصوَّر أن الفرصة لاحت للإعلان عن موقفه الحقيقي، وخصوصاً أنه يسهل تصوير ما جرى في 7 أكتوبر بأنه "عملية إرهابية كبرى"، كما يسهل في الوقت نفسه إقناع العالم الخارجي بأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة لن يكون لها سوى معنى واحد، وهو إقامة دولة إرهابية يمكن أن تعرض الكيان الصهيوني حتماً لخطر وجودي..

صحيح أن هذا التصور يمتّ إلى عالم البروباغندا السياسية أكثر مما يمتّ إلى عالم الواقع، غير أن اليمين الديني المتطرف المسيطر على حكومة نتنياهو اعتقد أن الفرصة باتت سانحة في ذلك الوقت لشطب كلمة الدولة الفلسطينية من القاموس السياسي المتداول عالمياً، وهو ما يفسر شراسة الحرب التي أعلنتها هذه الحكومة، ليس على قطاع غزة فحسب، إنما أيضاً على الضفة الغربية، والتي وصلت إلى حدود الإبادة الجماعية، فقد اتضح بما لا يقبل المجال لأي شك أن حكومة الكيان الحالية بقيادة نتنياهو تسعى لإعادة فرض سيطرتها من جديد على كل فلسطين التاريخية، وأنها مصممة على ممارسة كل أنواع الضغوط على الشعب الفلسطيني لإجباره على النزوح، ليس من قطاع غزة فحسب، ولكن من الضفة الغربية أيضاً..

أخلص مما تقدم إلى أن قرار الكنيست رفْض قيام دولة فلسطينية لا يمكن أن يحول في حد ذاته دون قيام هذه الدولة في المستقبل، وذلك لسبب بسيط، هو أن قيام دولة فلسطينية مستقلة لا يتوقف على إرادة الكيان الصهيوني بقدر ما يتوقف على إرادة الشعب الفلسطيني وعلى تصميمه لنيل حريته واستقلاله، غير أن هذا القرار يبعث في الوقت نفسه برسائل مهمة لكل من يهمه أمر قيام هذه الدولة، وخصوصاً على الصعد الفلسطينية والعربية والدولية..

على الصعيد الفلسطيني، لم يعد بمقدور أحد بعد صدور هذا القرار أن يدَّعي أن اتفاقية أوسلو لا تزال نافذة وصالحة، وبالتالي يمكن الاستناد إليها لإقامة دولة فلسطينية في المستقبل، فالواقع يؤكد أن هذه الاتفاقية سقطت تماماً..

لذا، يمكن القول إن كل فلسطيني يدَّعي أن هذه الاتفاقية لا تزال سارية المفعول يعد خارجاً على الإجماع الوطني الفلسطيني، بل إنه لم يعد بمقدور أحد أن يدَّعي أن الدولة الفلسطينية المستقلة يمكن أن تقوم عبر مفاوضات سياسية أو باستخدام الوسائل السلمية وحدها..

وفي تقديري أن كل من يروج اليوم للأفكار التي تدعو إلى التخلي عن المقاومة المسلحة أو تطالب بنزع سلاح الفصائل قبل قيام الدولة الفلسطينية يعد أيضاً خارجاً على الإجماع الوطني الفلسطيني.. ولا شك في أن الوقت أصبح ناضجاً الآن لإعادة التأسيس لحركة وطنية فلسطينية موحدة تتمحور حول فكرة المقاومة بكل أشكالها، وتشارك فيها كل التيارات الفاعلة في الشعب الفلسطيني..

على الصعيد العربي، أظن أنه لم يعد بمقدور أي دولة عربية أن تدَّعي أن الاستمرار في تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني يمكن أن يساعد على تليين موقفه ودَفْعِه نحو القبول بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في مقابل القبول العربي باندماجه في المنطقة، فقد ثبت بالدليل القاطع أن إقدام الدول العربية على تقديم تنازلات أحادية الجانب يدفع الكيان الصهيوني نحو المزيد من التصلب وطلب المزيد من التنازلات بدون انقطاع..

وفي تقديري أن الوقت حان لكي تقتنع الدول العربية التي قامت بتطبيع علاقاتها فعلاً مع الكيان الصهيوني بضرورة الربط بين مواصلة التطبيع وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية..

لذا، أظن أنه أصبح لِزاماً على هذه الدول أن تبلور معاً خطة جماعية لتجميد اتفاقيات التطبيع إلى أن يلتزم الكيان الصهيوني صراحةً بقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.. أما الدول العربية التي لم تقدم بعد على التطبيع، فعليها تأجيل هذه الخطوة إلى ما بعد قيام الدولة الفلسطينية المأمولة بالفعل..

وعلى الصعيد الدولي، لم يعد المجتمع الدولي قادراً على أن يتغاضى عن الجرائم البشعة التي يواصل الكيان الصهيوني ارتكابها كل يوم.. وقد آن الأوان لكي تشرع المؤسسات الدولية في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوقيع عقوبات رادعة بحق هذا الكيان إلى أن يذعن لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.


* أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة - عن "الميادين"
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 03:12 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-66375.htm