الميثاق نت: - القراءة في التاريخ السياسي لليمن الحديث، تستدعي وعيًا مكثفًا؛ لأنّ هذا التاريخ ما زال حتى الآن مقصورًا في المذكرات السياسية، التي تدخّلت كثيرًا من العوامل في صوغ ما تضمّنته، وأخرجت بعضها عن حياديتها، وبالتالي فالبحث في مرحلة ما أو شخصية ما يُصبح مهمة صعبة تقتضي منك التمحيص والتدقيق في ما روته المذكّرات وتضمنته الروايات وغيرها من المصادر التي خرجت عن ندوات، والتي تبقى، في الأخير، مصادر مهمة لفهم ما كان عليه تاريخ البلاد منذ منتصف القرن الماضي.
تُمثّل شخصية الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني (1910 – 1998م) واحدة من الشخصيات اليمنية الأكثر التزامًا في مواقفها بما يتفقُ مع قناعاتها الوطنية، وهو ما نلاحظه بدءًا من مشاركاته الأولى في العمل مع الحركة الوطنية منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م التي قام بها تنظيم الضباط الأحرار من داخل الجيش، وكان موقف الإرياني مؤيدًا لها، وإنْ كان له رأي مختلف في تحديد موعد تفجيرها..
عقب قيام الثورة كانت مواقفه واضحة وبالذات على صعيد رفضه للإعدامات التي كانت تُنفّذ بحق رجالات العهد الإمامي، معتبرًا أنّ ذلك سيجر وبالًا على الثورة، كما كان له موقف رافض للتدخل الخارجي في شؤون اليمن الداخلية، وهو موقف كان واضحًا ضد التدخل المصري، ومن ثم التدخل السعودي، وإنْ كان الأخير تغلغل كثيرًا في البلاد خلال فترة حكمه، وهي الفترة التي تَعزّز فيها نفوذ شيوخ القبائل داخل أجهزة الدولة، وبقي موقف الإرياني رافضًا تقديم أيّ تنازلات من أيّ شكلٍ في علاقات اليمن بالسعودية، وبخاصة بعد توقيع اتفاق المصالحة 1970م، وهو ما جعل السعودية تُفكر من خلال رجالها في الداخل بضرورة الإطاحة بالرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني.
عقب قيام الثورة انقسم الصف الجمهوري إلى تيارين: تيار جمهوري ثوري بزعامة الرئيس السلال، وتيار جمهوري تقليدي محافظ يتزعمه الزبيري والنعمان والإرياني ويضم عددًا من القيادات التقليدية القبلية… ووقف التيار الجمهوري التقليدي المُعارض موقفًا رافضًا لرئاسة الرئيس السلال والوجود المصري في اليمن، مطالباً بتقليص صلاحيات الرئيس، واستحداث ما أطلقوا عليه بالقيادة الجماعية، وغيرها من المطالب التي عبّرت عنها بوضوح مقررات مؤتمرَيّ عمران وخمر المناوئة للتيار الجمهوري الثوري.
عند توليه الحكم بإجماع قيادات انقلاب الخامس من نوفمبر 1967م، عمل الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني على إنهاء الحرب بين الجمهوريين والملكيين (1962 – 1970م) من خلال إقرار المصالحة بين الطرفين، وإشراك ملكيين في أجهزة الدولة، واعتراف المملكة العربية السعودية بالجمهورية، وهو ما تم.. كما شهدت فترة حكمه إنشاء عددٍ من مؤسسات الدولة، وتوقيع اتفاقيات تعاون مع عددٍ كبير من دول العالم، بما في ذلك تعزيز التعاون الدبلوماسي مع الدول العربية، وتحقيق خطوات جوهرية باتجاه إعادة تحقيق الوحدة اليمنية. وقبل ذلك شهدت فترة رئاسته عديدًا من الأحداث المفصلية في تاريخ البلاد، أبرزها حصار السبعين يومًا من قِبَل القوات الملكية التي كانت على وشك إسقاط الجمهورية، إلا أنّ القوى الجمهورية استطاعت توحيد صفوفها وقلب المعادلة وتحقيق انتصار ساحق أنقذ الجمهورية من موتٍ محقق.
لا يمكن تجاهُل ما شهدته فترة حكم الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني من أحداث يراها الطرف الآخر سلبية، كالتخلص من قيادات التيار الجمهوري الثوري، وبخاصة بعد انتصار الجمهوريين في معركة فك حصار السبعين يومًا على صنعاء… وذلك من خلال ما عُرِف بأحداث مارس وأغسطس 1968م، وغيرها من الأحداث، بما فيها نفي عددٍ من الضباط الشباب للخارج، وصولاً إلى قتل وسحل رئيس هيئة الأركان حينها، المقدم عبدالرقيب عبدالوهاب، بطل فك حصار السبعين يومًا… وهي الأحداث التي ما زال تذكّرها يؤرّق الذاكرة الجمهورية في اليمن.
مرت تجربة القاضي عبدالرحمن الإرياني مع العمل الوطني والسلطة بعدّة مراحل، أولها دوره خلال العهد الإمامي، والتي كان فيها مساهمًا في الحركة الوطنية، مستفيدًا من تقلده عددًا من المناصب ضمن هيكل الحكم الإمامي في خدمة حركة معارضته، وهي المرحلة التي استمرت حتى عام 1962م، ومن ثم بدأ مشاركًا في الحكم الجمهوري من خلال عددٍ من المناصب التي تقلدها ضمن حكومة الجمهورية العربية اليمنية (1962 – 1967م) كمرحلة ثانية انتقل منها إلى رأس السلطة وتسلّم رئاسة شمال اليمن (1967 – 1974م)، ليغادر السلطة ويختار منفاه خارج اليمن حتى تُوفي – يرحمه الله – عام 1998م.
1910 – 1962
ولد عبد الرحمن بن يحيى الإرياني بتاريخ 10 يونيو 1910م، ونشأ في بلدة وهجرة إريان في أحضان والديه يرحمهما الله. وإريان قرية من قرى بني سيف العالي التابعة لمديرية القفر، إحدى مديريات محافظة إب.. وأسرة الإرياني عريقة في علاقتها بالعلم والأدب. بدأ دراسة القرآن على يد العلامة عبدالواسع بن محمد الإرياني رحمه الله، وكذلك مبادئ النحو والفقه والحديث على يد والده وأخيه الأكبر (علي). بعثه والده إلى مدينة جبلة، لدراسة التجويد والأجرومية في النحو. التحق بالمدرسة العلمية بصنعاء خلال 1925-1929م، ودرس فيها النحو والبيان والأصول والحديث والفقه، ومن ثم عاد إلى بلدته إريان ولازمَ والده، الذي كان من أبرز علماء عصره، وعند تعيين والده عضوًا في محكمة الاستئناف بصنعاء انتقل معه، واستمر في أخذ العلم في عدد من الحلقات بمساجد صنعاء حتى انتهى من مرحلة التحصيل عام 1936م..
في عام 1936، عقب الانتهاء من التحصيل، تم تعيينه حاكمًا شرعيًّا لقضاء النادرة/ وسط البلاد؛ فغادر صنعاء وشغل القضاء هناك لسبع سنوات. ثم عُيِّن حاكمًا لقضاء العدين في نفس العام الذي توفّي فيه والده يرحمه الله، ليُعين لاحقًا حاكمًا لقضاء يريم، لكن أمير لواء إب الأمير الحسن أبقاه لجواره لحل بعض الخلافات.
وقفت أسرة الإرياني (وهي من شريحة القضاة التي كانت تأتي تاليًا بعد شريحة السادة في تصنيف المجتمع اليمنيّ في عهد الحكم الإمامي) بجانب الإمام يحيى في ثورته ضد الأتراك، ويُعد والده من رجالات نظام العهد الإمامي، إلا أنه كان لا يسكت عمّا يتنافى مع العدل، فيضطر للكتابة للإمام بغرض إصلاحها.
بدأ عبدالرحمن عام 1932م في العمل الوطني من خلال مراقبة المجريات وتحرير المنشورات وبثها في المساجد والطرقات. وجمعته صلة وثيقة بعددٍ من رواد الحركة الوطنية كالمحلوي وأحمد المطاع والعزي السنيدار وعبدالله العزب، وغيرهم..
كما شارك عام 1944م في تأسيس أول جمعية سياسية في ذلك العهد باليمن باسم (جمعية الإصلاح)، والتي كانت على تواصُل مع الحركة الوطنية في عدن، وكان لها أهداف سياسية وإصلاحية للنظام الإمامي. إلا أنّ سيف الإسلام الأمير الحسن (نجل الإمام يحيى) كشف نشاط الجمعية، وتم القبض على أعضائها ممن كانوا موجودين، واقْتيدوا إلى السجن، وتم اعتقال القاضي عبدالرحمن في نوفمبر عام 1944، إلى أنْ أُطلق سراحه في 14 مارس 1945م، وعينه الإمام يحيى عضوًا في هيئة تدقيق الأحكام بتعز، وبقي هناك حتى عام 1947م.. في تلك الفترة بقي على اطّلاع دائم على الصحف والكتب التي كانت تصلُ من مدينة عدن، ومن ثم تقدَّم بطلبٍ إلى الإمام يحيى حميد الدين طالبًا الموافقة على شراء جهاز راديو.. في صورة تعكسُ ما كان عليه وضع البلاد قبل الثورة.
قامت ثورة 17 فبراير 1948م التي عملت على قتل الإمام يحيى، والسيطرة على مقاليد الأمور، وإعلان عبدالله بن أحمد الوزير إمامًا دستوريًّا… كنِتاج لحركة اتصال بين حركة الأحرار اليمنيين، ممثلة بقيادتها في مصر أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري وحركة الإخوان المسلمين بمصر.. حتى تبلورت مشاورات المعارضة اليمنية على القيام بثورة ضد حكم الإمامة..
عند قيام الثورة كان القاضي عبدالرحمن في مدينة إب للفصل في عددٍ من القضايا المستعصية. وعُيّنَ سكرتيرًا أول لمجلس الشورى بعد الثورة التي فشلت لأسباب مختلفة. بتاريخ 13 مارس 1948م سقطت صنعاء بيد قوات القبائل المناصرة للإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، وفي يوم 14 مارس تم القبض على القاضي عبدالرحمن، وتم إيداعه سجن نافع بحجة، ومن ثم نقله إلى سجن القاهرة. حينها نهبت بيوت أسرته في منطقة إريان..
كان سجن نافع مرتعًا للنشاط الأدبي والفكري، وكان القاضي الإرياني شاعرًا أسهم خلال سجنه في نافع في التعليق على ديوان عمارة اليمني، كما عمل مع القاضي عبدالله عبدالإله الأغبري على تحقيق ديوان الآنسي (الأب) الحُميني “ترجيع الأطيار بمرقص الأشعار”… وشهدت فترة سجنه في حجة تواصلًا مع روافد الحركة الوطنية في عدن حتى تم إطلاق سراحه عام 1954م بأمر من الإمام أحمد (1948-1962م) إثر مشاركته في الدعوة لولاية العهد للأمير محمد البدر (نجل الإمام) في مواجهة عمه (الأمير الحسن)، بل هو مَن وضع صيغة الولاية مدعومة بالأدلة الشرعية. عاد القاضي الإرياني إلى عمله السابق في تعز في الهيئة الشرعية، وكان مقربًا من الإمام أحمد..
عقب فشل الانقلاب الذي قاده المقدم أحمد الثلايا، في 21 مارس 1955م، وتنصيب سيف الإسلام عبدالله إمامًا.. وعلى الرغم من أنه لم يكن مشاركًا فيه أو مخططًا له، إلا أنه تم اعتقال القاضي عبدالرحمن في 6 أبريل 1955م في تعز ليتم إطلاق سراحه لاحقًا، ويعودُ إلى تعز وعمله السابق في الهيئة الشرعية… كما شارك في نوفمبر 1956م ضمن وفد المملكة المتوكلية اليمنية، برئاسة سيف الإسلام البدر في القمة العربية، في بيروت، وتم خلال تلك الرحلة زيارة مدينة القدس في 18 نوفمبر 1956م.
خلال الفترة من 1956 إلى 1958م عمل الإرياني مع المعارضة اليمنية على وضع ما أسموه برنامج العمل الوطني، والذي نتج عن عقد عدة جلسات لدراسة أحوال البلاد وكيفية الخروج منها.
كما كان ضمن الوفد اليمني في جلسات مباحثات الاتحاد الفيدرالي بين مصر والسعودية، والتي تمخض عنها توقيع اتفاقية الوحدة بين مصر وسوريا واليمن في دمشق في 8 مارس 1958م.. وسافر مع الإمام أحمد في رحلته العلاجية إلى إيطاليا في 16 أبريل 1959م، وعاد منها مع الإمام الذي تعرض لإطلاق نار بمستشفى الحديدة عام 1961م، بقي على إثرها طريح الفراش حتى مات.
ترأَّس القاضي عبدالرحمن بعثة الحج اليمنية من عام 1960م حتى قيام الثورة. كما عُيّن وزيرًا للدولة في أول تشكيل لحكومة برئاسة ولي العهد سيف الإسلام محمد البدر بن أحمد حميد الدين أوائل عام 1962م قبيل الثورة بأشهر.. مات الإمام أحمد بتاريخ 15 سبتمبر 1962م، وتمت مبايعة ابنه البدر إمامًا وملكًا لليمن بتاريخ 18 سبتمبر. خلال التحضيرات لتفجير الثورة سافر القاضي الإرياني إلى تعز بعد حديث له مع أحد ضباط الثورة تحت مبرر مرض ابنه، ليكون ضمن المساهمين في السيطرة على الوضع في تعز عند تفجير الثورة، وهو ما تم عند انفجار ثورة 26 سبتمبر 1962م من قِبل تنظيم الضباط الأحرار الذي تشكَّل عام 1959 من عدد من ضباط الجيش، الذين كان خيارهم الوحيد هو الثورة، وقد تم التحضير لها بسرية تامة، إلا أنه تم تقديم موعد تفجيرها بسبب ظروف مختلفة، لا سيما بعد إعلان الإمام الجديد السير على نهج والده.. وهي الثورة التي نجحت في تولّي زمام الحكم، وتم اختيار عبدالله السلال لقيادة الجمهورية الوليدة ورئاسة الحكومة الجديدة.
1962 – 1967
في حكومة ما بعد الثورة تم تعيين القاضي عبدالرحمن الإرياني وزيرًا للعدل (1962- 1964)، وعضوًا في التشكيل الثاني لمجلس قيادة الثورة، وخلال تلك الفترة أعلن القاضي الإرياني رفضه للإعدامات التي كانت تُنفذ لرجالات العهد الإمامي، وهو ما عبّرت عنه رسالة بعث بها من تعز إلى الرئيس عبدالله السلال، كما كان له موقف لا يرغب فيه بالتدخل المصري في اليمن بعد الثورة، وكذلك التدخل السعودي، بل كان رافضًا للصراع الإقليمي في اليمن.
ترأّس القاضي الإرياني وفود بلاده للأقطار العربية لشكرها على الاعتراف بالثورة. وكان خلال تلك الفترة رافضًا لِما كان يمارسه عبدالرحمن البيضاني من تجميع للنفوذ والمناصب بعد وصوله إلى اليمن بعد الثورة المدعومة من مصر.
ارتفع صوت القيادات الجمهورية التقليدية ومشايخ القبائل، أو ما يُعرف بالتيار الجمهوري التقليدي، ضد التيار الجمهوري الثوري، والذي يضم عددًا من ضباط الثورة ويتزعمه الرئيس عبدالله السلال، الأمر الذي جعل الرئيس السلال يعملُ حينها خلال الحرب مع الملكيين على كسب أولئك المشايخ وتلك المعارضة التي كانت رافضة للتدخل المصري، وتدعو إلى ما أسمته القيادة الجماعية، وبالفعل تم تشكيل مجلس رئاسة في 13 أبريل 1963م، وأُعيد تشكيل مجلس الوزراء باسم المجلس التنفيذي. وأصبح القاضي الإرياني عضوًا في مجلس الرئاسة، ثم تولى رئاسة المجلس التنفيذي وعُيّن نائبًا لرئيس الجمهورية في 5 أكتوبر 1963م. |