نجيب شجاع الدين - يجد المرء نفسه أحياناً مضطراً للهروب من واقع الأخبار الدموية المؤلمة المخزية، إلى التساؤل عن نتائج الكأس الأوروبي ونجومه الذين بات ينحدر غالبيتهم من أصول عربية وأفريقية..
تكتشف أن القنوات الرياضية عربية الأصل أكثر من يحلل ويتحلل؛ وأكثر من تظل تتبادل مع ضيوفها وجمهورها حرب الاتهامات والتخوينات للحكام والمدربين واللاعبين حتى في دكات الاحتياط..
تقضي الساعات بلا حساب في محاولات إثارة الشكوك، هل كان الهدف صحيحاً ؟!.. ثمة مؤامرة كونية كروية ينبغي كشف مستورها !..
من باب الفضول أو رغبة الترتيب لمدار قرابة 15 قمراً صناعياً تكتشف أن القنوات الرياضية تشكل ربع مجموع ألف قناة ناطقة بالعربية وموجهة لجمهورها المنشغل حد الهوس بمتابعة حركة الأقدام داخل المستطيل الأخضر وخارجه عبر جديد الصفقات والتنقلات على مستوى الأندية !.
تقلّب في قنوات الترفيه والموسيقى لتواجه سيلاً من الأغاني غير مفهومة الشكل والمضمون..
مثل قرد تتقفز داخل مربع الشاشة شابة تمتلك موهبة خارقة في إظهار مفاتن الجسد؛ هذا المعيار وحده كافٍ لتكون محبوبة الجماهير بغض النظر عن خامة اللحن والصوت "ناطرينكن"..
نجم صاعد إلى فوق.. فوق سماء الفن بفضل عشرين راقصة من حوله آية في الجمال لا تفارقهن كاميرات وأضواء مربع الأستوديو إلى أن يحني النجم الصاعد رأسه إشارة إلى أنتهاء العرض.. هل كان يغني؟!
عشرة أشهر من الحرب على غزة تحوَّل خلالها مستطيل القطاع إلى معرض حيّ للجثث وأشلاء الموتى ودمار المنازل والأرواح، تفرض عليك التساؤل بصرامة : معقول أننا لم نحرّك ساكناً وإنْ فنياً.. لم تصدر أغنية عربية وطنية قومية واحدة إلى الآن "يمكن نسينا في يوم إن العرب رخوة"..
لعلك تلاقي ضالتك في السؤال عن أحوال فنانة ما بعد الطلاق ؟ كيف وأين احتفلت بعيد ميلادها ؟ وهل ما زال طليقها المغمور يشرب الحشيش للتعبير عن الكآبة ورفض الدور القادم في إعلان لحوم معلبة ؟!..
تحاول من جديد الهرب من مشاهد الحرب إلى القنوات المتخصصة والمخصصة للجمهور العربي..
تستهلك ساعتين من العمر في متابعة قناة وثائقية تعرض فيلماً تسجيلياً مدبلجاً ومدلبجاً عن شخص خرج ذات مساء للتنزه في الغابة رفقة عائلته ليفاجأ بثور بيسون ضابح أسقطه مُغْمَى عليه من أول نطحة؛ يواصل الثور هجومه.. دعس الرجال بحوافره وشطَّط الشميز ثم عاد إلى القطيع أكثر غضباً، "ربما كان ينتظر من أحدهم أن يتدخل ويفارع" !
لإنقاذ الضحية تحلّق المروحيات وتتجمع سيارات الإسعاف والإطفاء والرفق بالحيوان وحقوق الإنسان والشرطة والانتربول ووسائل الإعلام ..الخ،
يحدث كل ذلك بينما زوجة الرجل المدوخ في الطوارئ تصرخ وتولول تريد الدخول لمواصلة التصوير وتوثيق المشكلة مع البيسون إلى النهاية !
ما علينا.. وطز في الجزء الثاني نصائح خبراء حول كيفية التعامل مع ثور بيسون ضابح ؟
تكرر البحث عن وسيلة للتسلية وإسكات إزعاج طفلك في قناة أطفال تغني "في منزل السنجاب دق دق الباب.. من في الباب؟".. تلاحظ تسمر ابنك مشدوهاً ربما لإيقاع الموسيقى أو لحركات وألوان الكارتون.. تلاحظ أيضاً أنه يسكت وأحياناً يبتسم كلما ناولته هاتفك لمشاهدتها على يوتيوب..
بعد أسابيع وبينما تنتظر أن ينطق كلمة أبي, بابا, أبتاه.. بكل بسهولة يناديك "الباب" !.
لا مفر من الأخبار.. تعود لمتابعتها مستغرباً إعطاء عدة قنوات الأولوية لما يجري في دول الغرب، وتجاهل ما هو حاصل عندنا دول العرب !
لعل أغرب ما يكون أن أقل مساوئ ومآسي ومكائد وعكننات الوصول إلى الحكم في بعض دول الشرق الأوسط والعالم الثالث صارت نموذجاً يُحتذى به للمرة الثانية في أمريكا عبر مجريات السباق المحموم بين المرشحين ترامب وبايدن ثم هاريس للرئاسة !.
تنتهي النشرة لتجد نفسك مثل ديناصور يتساءل في فراغ رأسه : هل ما زلت متمسكاً بنظريتك الخاصة المتعلقة بتطورالإعلام، وأن حكاية "رجل عض كلباً" لم تعد خبراً كما في السابق..
ربما عليك أن تدرك أولاً أن الإعلام يتغير، ويتغير بصورة عكسية ويغيّرنا ويحيّرنا معه إلى درجة أن سقوط 200 قتيل في قصف إسرائيلي لمدرسة أو مستشفى أو مخيم نازحين فلسطينيين لم يعد خبراً يهم الإنسان، ولم يعد رقماً يؤثر في إنسانية العالم !
|