الميثاق نت -

الإثنين, 12-أغسطس-2024
وجدي الأهدل* -
الكل هناك، ولم يعد أحد هنا!
هل سأل الإنسان نفسه “أين أنا؟”.
أعلم أن كل فرد منا هو في منزله، ولكن هل حقًا نعيش في منازلنا؟ هل نحن متواجدون هناك فعلًا؟ إنني أشكك في هذه البدهية!

أقول أفيقوا قبل فوات الأوان: نحن لم نعد نعيش في بيوتنا، إن السمع والبصر والفؤاد ليسوا مستقرين في الموضع الذي نحيا فيه، فهُم مختطَفون خارج جدران بيوتنا!

يعيش الإنسان المعاصر في بيته كجثة!
منذ متى حدثت هذه المأساة؟ منذ توغلت الشاشات في بيوتنا؛ شاشات التلفاز والهاتف والكومبيوتر والآيباد وسواها من الشاشات التي يتزايد حضورها في حياتنا..

إن أحدنا يعرف محتويات صفحته في الفيسبوك أكثر مما يعرف محتويات غرفة نومه! وقد يقضي البعض منا وقتًا في منصة تويتر (x) أكثر مما يقضيه مع أطفاله! وأما تعلق أنظارنا بالشاشة لمتابعة المسلسلات والأخبار والمباريات فلعله يأخذ نصف عمرنا ونحن لا ندرك ذلك!
أنت لم تعد موجودًا في الجسد الذي تسكنه!

قد تطرق إحدى الخواطر النبيلة جمجمتك القاسية مستأذنة للدخول، ولكنك لا تبالي بها، وربما تطردها، فأنت مشغول باللهاث وراء العالم المبهر الذي يطل من الشاشات..

قد تحاول شخصيتك ذاتها لفت انتباهك إليها لترعاها وتفهمها وتشاركها النمو والتطور، ولكنك مغمور كليًا بقمامة وسائل التواصل الاجتماعي فلا تعيرها أدنى انتباه!

ربما تحدث عاصفة داخل روحك، ويختل توازن كل ما هو بداخلك، وأنت لا تدري شيئًا عن ذلك، لأنك مشغول بمنشوراتك في وسائل التواصل الاجتماعي ومتابعة نشرات الأخبار، والجري في مضمار عوالم افتراضية لا وجود محسوس لها..
هل هناك كارثة أكبر من أن يفقد المرء تواصله مع ذاته؟.. هكذا صار الإنسان المعاصر حريصًا أشد الحرص على التواصل مع المجتمعات في العالم الافتراضي، ونسي أن الأهم هو التواصل مع نفسه..

متى آخر مرة اتصلت بـ.. نفسك؟؟
مع الأسف لا توجد تطبيقات في شبكة النت تتيح للإنسان التواصل مع الروح.. العكس هو الصحيح؛ فجميع تطبيقات شبكة النت مصممة لتبعدنا عن الذهاب إلى أعماقنا..

نحن نبحث في جوجل عن أجوبة لأسئلتنا، ولكن هناك أسئلة لا يستطيع جوجل الإجابة عنها، لأنها تخصنا وحدنا فقط..
في الماضي كان يكفي أن يجلس أحدهم تحت شجرة وينتظر في صمت الحصول على جواب لسؤاله..

يبشروننا بأن الذكاء الاصطناعي قادر على تقديم إجابات أكثر ذكاءً من أذكى أذكياء البشر، ولكن لدى الإنسان نوعًا من الأسئلة لا يعلم هو أصلًا بوجودها، وإذا حدس بها وشعر بها تُلح عليه في يقظته ومنامه، فإنه تقريبًا لا يستطيع أن يصيغها في جملة واضحة محددة.. إنها أسئلة غامضة لا تُقال بالكلمات، ولكنها موجات من مشاعر وأحاسيس، وهواجس تشغل البال لا تنتمي للأبجدية..

يقول السيد المسيح (عليه السلام) : “ماذا يستفيد الإنسان لو كسب العالم وخسر نفسه”.. والمعنى الجديد الذي تكتسبه هذه الجملة يمكن إسقاطه على الصورة التي نقدمها عن أنفسنا في العالم الافتراضي وفي المجتمع المادي، وننسى أن نعطي الأولوية لصورتنا الذاتية الحقيقية..
الإدمان على البث الفضائي وشبكة النت أدى إلى فقدان الإنسان قدرته على رؤية العالم المحيط به بأبعاده الثلاثة.. إن علامة الإنسان المعاصر هو أنه يرى الواقع الحقيقي الذي يعيش فيه ببُعدين فقط، ويحذف لا شعوريًا البعد الثالث..

التقدم التكنولوجي المذهل الذي حصلنا عليه، وما نزال نسعى إلى الحصول على المزيد منه، أدى إلى تسطيح الحياة الحقيقية.. كل الأشياء التي نراها أمامنا وخلفنا وعن يميننا وشمالنا وفوقنا وتحتنا ما عدنا نبصرها بعمق كما كان يبصرها أجدادنا، فنحن إنما نراها ببُعدين فقط، لدرجة أننا لا نكاد نشعر بوجودها..
إن التحديق المستمر يومًا بعد يوم، ولساعات طويلة، تارة إلى شاشة التلفزيون، وتارة إلى شاشة الحاسوب، وتارة إلى شاشة الهاتف المحمول، يخلق نمطًا معينًا من الرؤية عند العين البشرية؛ ومن ذلك مثلًا الانجذاب إلى وفرة الألوان، وكل ما هو صاخب ومبهرج ومثير، وإلا فإن الملل سيتسرب إلينا سريعًا..

لم يعد بمستطاع الإنسان المعاصر أن يستمتع لساعات بالتحديق في نخلة أو نجمة أو نملة.. لقد فقد المنظر الطبيعي المُتاح لنا جاذبيته، وأصبحنا نُحبذ المنظر الطبيعي الذي نراه في شاشة التلفزيون أو الحاسوب..

نحن نفقد اتصالنا البصري بالأشياء من حولنا، ونعيش في عالم مزيف من صُنْع الشاشة السحرية.. والنتيجة أن الإنسان لم يعد يرى بعينيه، وإنما يرى بالعين الافتراضية التي أوجدتها في عقله التكنولوجيا الحديثة، وهي عين مصنوعة عبر وسائل الإعلام وشبكة النت.. إنه نوع من العمى الضوئي الباهر الذي يجهر البصر.. فيقع الفرد في شكل غريب من العبودية، مقيدًا بالتحديق في كون مُكون من بُعدين فقط، كل شيء فيه جاهز، ويخلو من العمق والتأمل والتفكير، وما على الفرد سوى أن ينقاد ويرى ما يريد له الآخرون أن يراه..

كيف يمكن للإنسان أن يُعالج نفسه من هذا العمى الذي يبهر البصر؟.. ليس حلًا أن يقاطع المرء هذه التكنولوجيا ويكف عن استخدامها، فإن هذا مطلب شبه مستحيل، ذاك لأننا نعيش في عالم يعتمد بصورة متزايدة على التكنولوجيا، كما أن لها فوائد جمة لا يمكن الاستهانة بها.. ولعل الحل هو تحديد ساعات للقراءة توازي ساعات التحديق في تلك الشاشات.. ويبدو أن هذه معادلة غير قابلة للتحقق مع الأسف..

قد يتساءل البعض لماذا الكتاب دون سواه؟.. الجواب هو أن القراءة من الكتاب الورقي، تُعمّق حضورنا في العالم الذي نحيا فيه، فكلما قرأنا أكثر، كلما تفتحت عيوننا، وأصبحت رؤيتنا أكثر جلاءً وعمقًا..

الشاشة تُسطّح الوعي، تخدّر الأدمغة.. وأما الكتاب فيجعل الوعي متقدًا ومتفتحًا للنمو والتطور..

يُشبه الإبحار في شاشات الهواتف والحواسيب والتلفزيونات رحلة هبوط بطيئة نحو قعر الجحيم! الجسد يظل سليمًا معافى، ولكن الدماغ يحترق ببطء شديد حتى يصل صاحبه إلى مرحلة البلادة والعته واللامبالاة..

بينما التجوال في عوالم الكتب أشبه بنزهة في الجنة، الروح تُزهر والعقل يستمد من أشعة الكتب طاقة النمو والنضج.



* المصدر: موقع اليمني الامريكي
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 14-أغسطس-2024 الساعة: 12:21 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-66439.htm