الميثاق نت -

الإثنين, 30-سبتمبر-2024
د. عبدالوهاب الروحاني -
من أكثر الشخصيات الوطنية تواضعاً، لا يهتم بالشكليات ولا يحضر المناسبات الترفيهية، ظهوره قليل في وسائل الإعلام، بل يكاد يكون نادراً، تخيَّلوا رجلاً بحجمه شغل خلال أكثر من ثلاثة عقود أكثر من خمسة عشر منصباً رفيعاً في الدولة، بالكاد وجدتُ له صورة وحيدة في الشبكة العنكبوتية (ربما) تعود لأرشيف إحدى الوزارات التي شغلها في عقد السبعينيات..

قرأتُ عنه وتابعتُ مواقفه قبل أن اعرفه، هو من ألمع الاقتصاديين خبرة ودراية بمجاله، رجل دولة معروف بتفانيه وإخلاصه ونزاهته، من جيل الرواد العمالقة الذين تركوا بصمة في البناء الاقتصادي والسياسي في البلاد..

علي لطف الثور هامة وطنية كبيرة، من لم يعرفه أو يسمع عنه، عليه أن يقرأه في سجلات وتاريخ البناء المالي والاقتصادي في البلاد بدءاً باللجان الاقتصادية العليا في منتصف الستينيات، وبنك الإنشاء والتعمير، ووزارات الخزانة، والاقتصاد، والتنمية، والجهاز المركزي للتخطيط في عقد السبعينيات وحتى وزارة الخارجية، والتجارة الخارجية، وصناعة وتسويق الأسمنت، والشورى ثم النواب في الثمانينيات ومطلع التسعينيات، ومستشاراً في اجتماعات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي حتى عام 2001م، ليستقر به المقام في مجلس الشورى..

علي لطف الثور من الكفاءات النادرة، كان جزءاً فاعلاً من نخبة العمل الوطني من أمثال عبدالغني علي، محمد عبدالوهاب جباري، محمد الجنيد، محمد سعيد العطار، عبدالله الكرشمي، حسن مكي، وغيرهم كثيرون؛ خلال أكثر من أربعة عقود شكَّل هؤلاء خلايا عمل إنتاجية وطنية، وكانوا امتداداً مكمّلاً لبعض، جسَّدوا روح التكامل في وظائفهم، لأن الوظيفة عندهم لم تكن غنيمة يتهافتون عليها أو "فيداً" يظفرون به، وإنما كانت مسئولية يحملون همها ليلاً ونهاراً، ويكابدون من أجل الإنجاز الذي يسجل في خانة الوطن، ويُحسب لهم..

عرفتُ علي لطف الثور شخصياً في فترة متأخرة، لكنها المعرفة التي عززت من احترامي ومعزتي للرجل، هو شخصية وطنية نظيفة، مثقف ومستنير من الطراز الممتاز، ممتلئ هدوءاً وتواضعاً.. جمعتني به بعض المواقف واللقاءات المرتبطة بنشاطه المميز في مجلس الشورى منذ العام 2008م، ونقاشاته التي تلامس حياة المجتمع وترمم أوجاع الناس، وعبر القراءات الاقتصادية العلمية الممتعة، التي كان يقدّمها عن اللجنة الاقتصادية التي يرأسها، وفي كثير من المنتديات..

ذات مرة قال في مداخلة له في ندوة عن الحوار أقمناها بمركز الوحدة للدراسات الاستراتيجية: "إن اهتمام البلد خلال السنوات الماضية ولأكثر من عشرين سنة إلى هذه الساعة تَركَّز على الجانب السياسي وأهملنا الجانب الاقتصادي، ومعيشة الناس، وتنمية البلاد، وتوفير لقمة العيش، والتخفيف من البطالة، والفقر، والاهتمام بالتنمية.. فكنا حُكاماً ومحكومين، وأحزاباً لا نهتم بهذا الجانب، وعسى أن يكون له في الحوار حضور، لأن الفاقة والحاجة إلى لقمة العيش هو الذي يصنع التخلف، ويخلق التمرد وعدم الثبات الاجتماعي لأي بلد".. هكذا عرفتُ علي لطف الثور رجل علم واقتصاد ومنطق، قريباً من الناس ومتحيّزاً لهمومهم ومعاناتهم..

عرفتُ علي لطف الثور جيداً بموافقه المرتبطة بتفاعلات أحداث 2011م، والتسابق المحموم للقوى والشخصيات السياسية والاجتماعية والعسكرية باتجاه البحث عن دور وموقع في زحمة الجنون وسيطرة البندق على العقل؛ ففي اللحظات الحرجة التي تمر بها المجتمعات (عادةً) تختلط الأوراق، وتسيطر أجواء المزايدات، وتتغير الألوان وتتبدل الألسن عند كثيرين إلا من رحم ربي، ومن تربَّى على قِيَم وأخلاق الوطن، وهؤلاء هم صوت العقل والحكمة الذي يوقف النهم والتدافع.. أسماء ثقيلة وكبيرة بوزن علي لطف الثور، ويحيى العرشي، محمد العيدروس، صالح عباد الخولاني، علي مقبل غثيم، عبدالحميد الحدي، محمد يحيى العاضي، حمود العودي، وآخرين كثيرين، بأمثالهم فقط يتميز الغث من السمين، وتوضع الخطوط الفاصلة بين النقائض..

علي لطف الثور قارئ متمعّن ومستمع جيد ومحاور خلوق وعاقل، جمعني به أكثر من منتدى ومجلس وملتقى و"مقيل" كانت في أغلبها تدعو للتصالح والتسامح، وكان الرجل فعلاً حياً في جميعها؛ أتذكر قراءته الموضوعية لأوراق العمل السياسية والاقتصادية التي أدارها في ندوة "الحوار طريقنا إلى التوافق والسلام"، التي أقمناها بمركز الوحدة للدراسات الاستراتيجية في مايو من العام 2012م، وكانت ضمنها ورقة عمل لي قدمتها عن "آلية وضوابط الحوار الوطني"، ورأيتُ كم كان دقيقاً وموضوعياً في نقاش محاورها، يركّز على المعلومة الدقيقة، والمصدر الصحيح، ويبحث بوعي في الشكل والمضمون..
ذات صباح من صباحات "ربيع اليمن" الذي تحوَّل شتاءً، حضرنا معاً فعالية إشهار تجمُّعٍ سياسيٍّ (ما).. كنا نتوسم فيه خيراً، غير أن مظاهر البذخ والبهرجة في الفعالية كانت ملفتة جداً، وكان السؤال الذي طرحه الرجل هو: من أين كل هذا ؟!، الأمر الذي بدا كافياً لإقناعه وقائمة طويلة من المشاركين بالإعلان عن انسحابهم أو قُلْ نفي علاقتهم بذلك التجمع لسبب مهم وهو غياب الشفافية، ووجود علامات الاستفهام حول مصادر تمويله..

ما عرفته عن علي لطف الثور أنه لم يسعَ يوماً للظفر بوظيفة أو منصب، بل كانت المناصب تبحث عنه، وكان في ذلك يكمن سر قوته إلى جانب خبرته، وكفاءته، ونزاهته، وتمسكه بإعمال النظام والقانون؛ فكان رجل دولة لم ينحنِ للإملاءات ولا للإغراءات، حافظ على مكانة مميزة في الدولة والمجتمع كقيمة اقتصادية وقامة وطنية، تحظى بتقدير واحترام كبيرين في الأوساط العامة والخاصة، أطال الله بعمره ومتَّعه بالصحة والعافية.
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 03:13 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-66637.htm