الميثاق نت: - يتضح من الأغاني الثورية والوطنية، مدى الغضب الكامن، ليس في قلوب الشعراء أو الفنانين، إنما في قلوب اليمنيين، استلهمته مخيلة الموسيقيين، لتكون أناشيد هادرة، وحناجر غاضبة، تصدح بكل إبداع وقوة أيضاً، داعيةً إلى رحيل الإمامة، ومعها الاستعمار البغيض عن كل شبر من بلاد عانت طويلاً من الأثافي الثلاث: الجهل والمرض والجوع..
فجَّر الثورة (26 سبتمبر) وصنوتها (14 أكتوبر) عظماء، من ضباط وعلماء ورجال سياسة وتجار، وغيرهم من شرائح المجتمع، رافقهم في خطوتهم التاريخية، فنانون كانوا بعظمة الحدث، عبروا عنه كما يجب، في أغنيات ستظل تردد أبد الدهر، كانوا بركاناً من اللهب، وكانت أغنياتهم زلازل من الغضب..
إذا أردتَ أن تعيش الغضب الثوري، وإذا أردت أن تعرف لماذا ثار اليمنيون على الإمامة وأذنابها، كما يثورون اليوم ويقاتلون، ما عليك إلا الاستماع لروائع النور والنار من إبداعات محمد مرشد ناجي، وأيوب طارش عبسي, وعلي بن علي الآنسي، ومحمد سعد عبدالله، ومحمد محسن عطروش، وفضل محمد اللحجي وأحمد يوسف الزبيدي ومحمد صالح حمدون وحسن محمد عطا، وأحمد بن أحمد قاسم، في أغنيات بعضها سبقت الثورة، وبشرت بها، وأخرى جاءت معها ورافقتها، وأغنيات جاءت في السنوات التالية لها، والتي كان الصراع الجمهوري مع الإمامة باقياً والتي حاولت فيه العودة من جديد..
وكان من الشعراء، صالح نصيب، وعبدالله هادي سبيت، وعبدالله عبدالوهاب نعمان، وعلي عبدالعزيز نصر، ومطهر الإرياني، ومحمد سعيد جرادة، ولطفي جعفر أمان، وسعيد شيباني، والقرشي عبدالرحيم سلام وغيرهم الكثير..
أنا الشعب
رائعة الفنان محمد مرشد ناجي، (أنا الشعب زلزلة عاتية) والتي ألهبت الجماهير، وما زالت تلهب مشاعرهم إلى اليوم، في تشخيص للشعب الجبار، الذي إن ثار لا أحد يستطيع كبح جموحه وثوريته وغضبه، وهي الأغنية، التي لم يتم البحث عن قائلها، صارت وكأن قائلها الشعب نفسه، صارت كالأساطير والرموز الشعبية، ولم لا وهي بهذه الحدية والثورية، التي يجب أن يتسلح بها كل الجموع وليس فرداً واحداً..
كُتبت القصيدة قبل عام من الثورة في بدايات العام (1961م)، كان هناك ما يشبه التحفز، ينتظر الثوار ساعة الصفر للبدء بثورتهم، تظهر التكوينات الثورية في أكثر من محافظة ومدينة يمنية، كل يوم تتوسع الثورة، حتى في النصف المحتل من الوطن، من قبل الاحتلال البريطاني، كان صوته مسموعاً، بدأ الغليان يسري في كل مكان من عدن، والتي أصبحت ملجأً للكثير من الأحرار، بها ينظرون ويخططون، ويحلمون، ويغنون..
ليست هي البداية، وإن كانت من بواكير الأغنيات الوطنية، التي بدأت تأتي من مصر العربية، التي كانت في أوج ثورتها، وحيث أثير صوت العرب الذي بدأ الآخر هو يتسلل إلى أصوات وحناجر اليمنيين، التواقين للثورة والغضب معاً، فشكلوا سيمفونية ثورية منذ الانطلاقة إلى خنادق القتال دفاعاً عن الثورة الوليد، وكانت أغنية “أنا الشعب” بمثابة النشيد الوطني الخالد الغاضب..
إنها ليست أغنية، إنها عاصفة أرادت أن تجتث كل ما أمامها من الإماميين، والواقفين كحجر عثرة أمام الثورة والحرية والكرامة، إنها عبقرية الكلمات والأداء واللحن العبقري، الذي أبدع فيه فنان الثورة محمد مرشد ناجي، أو المرشدي الذي صار رمزاً للثورة الوليدة، وللفن اليمني وموسيقاه الهادرة..
ما يميز أغنية (أنا الشعب) بأنها دخلت في الموضوع الرئيس مباشرة، حيث الإمام الطاغية، والمستعمر الغاصب، الذي لن يستطيع الوقوف أمام غضبة الشعب، كما أنها لخصت الغضب من أول الكلمات بأنه لا أحد يمكنه الوقوف أمام الشعب وقد قرر ثورته، وأن غضبه لن يهدأ مهما تعالت الأصوات لإسكاته وإخماده:
أنا الشعب زلزلة عاتية
ستخمد نيرانهم غضبتي
ستخرص أصواتهم صيحتي
أنا الشعب عاصفة الطاغية
لا أحد بعد الشعب له الحق، هكذا أراد كاتبها أن يختزل المعنى بصوت الجماهير.. تقول أرجح الأقوال بأنه الشاعر “علي عبدالعزيز نصر”، فوصل المعنى بحنجرة وموسيقى “محمد مرشد ناجي” التي جاءت مكثفة وقوية وهادرة، تشدو للخلاص والانعتاق والتحرر، فالشعب هو الباقي، بينما الطغاة إلى زوال وانتهاء:
(أنا الشعب قضاء الله في أرضي
أنا الشعب
على قبضة إصراري
سيفنى كل جبار
ولن يقهر تياري)
شاكي السلاح
تغنَّى بها أكثر من فنان، كانت دعوة لحمل السلاح، والانطلاق إلى الخنادق، لا وقت للقعود والجلوس والانتظار، لا بد أن تكون للطلقة دورها في التحرير، لن ينتهي الظلم إلا بالكفاح المسلح، هكذا دوت ووصل أزيزها إلى كل مكان في الأرض اليمنية، وما زالت تؤدي دورها إلى اليوم، لم يضمحل لحنها، كما أن لحنها وكلماتها ستظل خالدة إلى أبد الدهر..
إنها منذرة ومبشرة في الوقت نفسه، ففجر الثورة قد لاح، لكنه آن الأون ليكون للمدفع دوره، وللبندقية، ولعرق ولدم المقاتلين، دفاعا عن الكرامة والمساواة، فلا هو “سيد واحنا له عبيد”..
(يا شاكي السلاح شوف الفجر لاح
حط يدك على المدفع زمان الذل راح
هذا الغير سيد وحنا له عبيد
يا من مات يهنأ له من القهر استراح
هذا الماء سال هذا الغصن مال
هذا الزهر يتبسم على ضوء الصباح)
كثير من الكتاب يقولون: إنها أهم قصيدة وطنية في أدب الثورة اليمنية، تغنى بها فضل محمد اللحجي، وأحمد يوسف الزبيدي، ومحمد صالح حمدون، وحسن محمد عطا، وهي من كلمات وألحان عبدالله هادي سبيت..
وكثرة مؤديها يعطي الدلالة بأنها صارت شعبية وعلى لسان كل يمني، وإلى اليوم ما زالت تردد، وتلهب حماسة المقاومين، حافظت على بريقها ولحنها وغضبها، كانت تبث من إذاعة صوت العرب في الستينيات من القرن الماضي، وكان لها وقع وأثر كبير في نفوس اليمنيين في الشطر الشمالي والجنوبي على حد سواء..
“مد يدك على المدفع زمن الذل راح”، توجيه معنوي في شطر واحد من أغنية، لخصت كل الغضب الثوري، وحقيقة النضال الذي لا بد أن يستمر على الإمامة والمستبدين، ثم تظل على هذه الوتيرة من الحث ورفع معنويات المقاتلين، للاستمرار على الكفاح والإسراع إلى الالتحاق بجبهات القتال، والانخراط في صفوف الثورة الوليدة، والالتحاق بمواكب الثوار، التي كانت وجهتهم حينها “تعز” التي كانت ترسل المقاتلين بعد تدريبهم، وشحن قلوبهم ووعيهم بكلمات مقدسة، كهذه في “يا شاكي السلاح” كانت ترسلهم إلى صنعاء للدفاع عن الثورة، أو إلى عدن لمقارعة المستعمر..
برع يا استعمار.. برع
أغنية خالدة، وهادرة، ألهبت الجماهير في ربوع الوطن الكبير، صداها إلى اليوم، وصدى صوت محمد محسن عطروش، الذي جعل من نفسه أيضاً بمثابة “التوجيه المعنوي والسياسي والعسكري للمعركة، في هذه الأغنية الكنز الثوري الكبير، كما أن لها أهمية أخرى، وهي هزيمة الآخر نفسيا، سواءً أكان إمامياً أو ذيلاً للاستعمار البريطاني الذي كان جاثماً على جنوب الوطن..
(برع يا استعمـار.. برع
من أرض الأحرار.. برع
هيا للحريـة.. هيا للثورية
تيار الحـرية.. تيار الثورية
تيار القوميـة
بـرع يا استعمــــار برع
من أرض الأحرار.. برع)
سياط من الغضب تجلد الطغاة، هكذا تحس الأغنية، كما تحس بأنها تضخ الوعي في عقول الجماهير، ليس سهلاً على الطغاة أن تنبعث كل هذه الألفاظ والمصطلحات بصورة مفاجئة، إنها ثورة على كل شيء، لا تنازل فيها، سقفها الحرية، والثورية التي معناها اجتثاث كل الماضي، بمساوئه وقبحه، لن يبقى إلا الوطن وحريته الكاملة، ووعيه بالقضية والإيمان بها..
إنها الحماسة والثورية الخالصة التي انتقلت من هذه الأغنية الفلتة “برع يا استعمار” إلى أغاني أخرى، وكأنها تحدثنا بأن ما دعت إليه قد تحقق فالرعب والخوف قد دب في النفوس، إنها المعركة المتكاملة التي تديرها وتنفذها الموسيقى الغاضبة، الموسيقى الثورية بكل تجلياتها، نعرف ذلك حين نسمع رائعة الشاعر صالح نصيب، والتي غناها فنانون كثر، منهم فيصل علوي والتي منها.
(قد حصدناهم مثل القمح الأخضر
في الشوارع يصرخون
يوم هذي الأرض ثارت
والسماء بالنــار تمطر..
والفرنجي شل قاربه وشمر)..
*كان أيلول
استمرت الأغنية الوطنية على وهجها ووتيرتها ووترها الباذخ بالفن، تستلهم الثورة وتلخص أهدافها الخالدة بالحرية والمساواة والعدل، لا يخفت غضبها، نجد ذلك في أغنية يا بلادي أو “كان أيلول” لمطهر الإرياني والتي لخص بها ثورة الـسادس والعشرين من سبتمبر.
(كان أيلول وكان الليل داجي
قاتم الجدران مضروب السياج
فأتينا صارخين
يا جدار الليل إنا قادمون
وعلى طلقات رشاش ومدفع
أجفل الليل على ذعر وأقلع
واستفاق النائمون
يشهدون الليل صبحاً مستبينا..
إنها الثورة وانداحت عواصف
ورعود وبراكين قواصف
وأطاح الثائرون
بطواغيت العتاة الظالمينا)
ستخنق أنفاسهم قبضتي
تعبير قوي وغاضب، لكنه من شاعر حالم، وهادئ، إلا أنه حين حضرت الثورة، تحول إلى مارد هو الآخر، لا يقف أمام ثورته أحد، فكتب أغنية غاضبة، وهي (أخي كبلوني).. إنه الشاعر لطفي جعفر أمان، ولحَّنها وغنَّاها محمد مرشد ناجي، ومن المصادفة عند قراءة القصيدة في ديوان الشاعر نجد عنوانها “سأنتقم” وهو الإيغال في الغضب والثورية، من كلمات الأغنية، وتُعد أول أغنية وطنية غاضبة، ظهرت في العام 1954م:
(أخي كبلوني وغلوا لساني واتهموني
بأني تعاليت في عفتي ووزعت روحي على تربتي
ستخنق أنفاسهم قبضتي لأني أقدس حريتي)
أما الفنان علي بن علي الآنسي، وفي أوج الثورة الخالدة، (26 سبتمبر) لم يجد ما يعبّر عن ثورته إلا قصيدة نارية أبدع في كتابتها الشاعر صالح نصيب، وهي (باسم هذا التراب والفيافي الرحاب) لتنطلق في غضبها تحث الثوار على مواصلة نضالهم، وهزيمة الإمامة، وخنقها بكل قوة، مع دعوة إلى الإيمان بالقضية، والتشبث بالأرض، وهي الأغنية التي لقيت صدىً كبيراً لدى الجمهور اليمني، وكانت أكبر حافز لانخراط الشباب في المقاومة الشعبية من كل مناطق اليمن، وقد ظلت نشيد الصباح في مدارس الجمهورية.. حتى تم تأليف وتلحين النشيد الوطني للجمهورية العربية اليمنية آنذاك، وهو (في ظل راية ثورتي أعلنت جمهوريتي). |