طه العامري - تتلاحق الآهات، تتوالى زفرات الشهيق، تزداد خفقات القلوب المكلومة وهي ترى الموت يخيّم على سماء الأمة.. موتٌ يحصد أرواح الأبرياء دون أن يستثني طفلاً أو امرأةً، شيخاً أو شاباً.. ودمارٌ لم يَبقَ حجراً على حجر، ولا يستثني حتى الأشجار..
عدوان بربري تواجهه الأمة وإنْ كانت بدايته (فلسطين) التي هي عنوان وجود الأمة وفيها يكمن وجود الأمة ومستقبلها ومصيرها..
هناك حيث الكل يُستشهد الأطفال والنساء والشيوخ والشباب والأشجار والأحجار.. هناك حيث يُستشهد المكان، ويشهد الزمن على واحدة من أهم الملاحم البطولية التي يمتد مسرحها من فلسطين إلى لبنان وصولاً إلى سوريا واليمن والعراق، مواجهة ملحمية هدفها كسر إرادة جيوب الحرية في الأمة على طريق التطويع والتطبيع وفرض الهيمنة على أمة الضاد..
هناك حيث رائحة الموت تخيّم على المكان، وصرخات القهر تدوي في سماء المكان، وأنين الجوعي الجرحى والثكالى تطغى على أزيز الرصاص ودوي المدافع وهدير الطائرات.. هناك حيث يسجّل التاريخ مرة أخرى ملاحم انتصار الدم على السيف.. هناك حيث تتناثر أشلاء الأطفال ومعها تتناثر قِيَم وأخلاقيات وقوانين العالم التي لم تكن سوى روزنامة من الأكاذيب.. هناك حيث تسقط نصوص القانون الدولي مع سقوط كل طفل وامرأة بسلاح العالم المتحرر من كل القِيَم الأخلاقية والإنسانية، هناك حيث تحرر المسلمون من دينهم، وتحرر العرب من عروبتهم، وتخلى البشر عن إنسانيتهم.. هناك حيث ساد قانون الغاب وشرعية المحتل..!
هناك حيث انتصبت أقدام المقاوم راسخة ثابتة في مواجهة جحافل الطغيان تواجه الموت بابتسامة العاشق الملهوف للقاء من يحب..
هي ملحمة العجائب ومعركة الأساطير التي كانت مجرد قصص تُتلى من (أفواه الحكوايتيين في المقاهي)، لكن هناك من جعل من تلك القصص والأساطير حقائق يتابعها العالم مذهولاً غير مصدّق ما يرى وما يجري على أرض الملاحم والبطولات من غزة إلى جنوب لبنان وقد تمتد مساحتها إلى أبعد من ذلك..
هناك في غزة ملحمة أسطورية تجاوزت كل ملاحم التاريخ وأساطيره؛ وأبطال يسيطرون في الميدان ويسطّرون أساطيرهم التي لم يسبقها إليهم أحد في التاريخ..
هناك حيث المقاومة تواجه التطلع بالتجذر كشجرة الزيتون، هناك (كربلائيات) تسطّر ملحمة الخلود ومن الموت تُنشِئ جسوراً للحياة، حياة الحرية والكرامة، حياة الحق على الباطل، حياة الخلود على أرض الجدود، هذا هو مشروع العربي الفلسطيني وأخيه اللبناني ومعهم بقايا أحرار الأمة الذين يؤمنون بأن الموت هو الطريق للحياة في أدبيات الشعوب المحتلة التي لا يمكن أن تنتزع حريتها من المحتل دون الإيمان بأن الموت هو طريقها نحو الحرية والاستقلال..
إن ما يحدث في فلسطين شيء لم يشهد له التاريخ مثيلاً.. إن جرائم الإبادة التي تُرتكب بحق الشعب العربي في فلسطين يخجل منها (هولاكو، وجنكيز خان، وهتلر)، وكل طُغاة التاريخ يخجلون من الجرائم التي تُرتكب في فلسطين ووجهها الآخر لبنان الذي إليه امتدت جرائم (العالم الحر) بزعامة أمريكا زعيمة الإجرام.. أمريكا التي أبادت أكثر من مائة مليون هندي من سكان أمريكا الأصليين، واستعبدت غدراً وخديعةً ملايين الأفارقة الذين ذهبت لجلبهم من أوطانهم في القارة الأفريقية بزعم أنها ستوفر لهم أعمالاً وصدَّقوها ولم يدركوا مطلقاً أنهم -وهم الأحرار- سيتحولون إلى (عبيد) وهم على متن السفن في عرض المحيط، ليقضوا عقوداً طويلة في نير العبودية من قِبَل دولة مجردة من كل القِيَم والأخلاقيات الإنسانية، ويتأكد هذا من مواقفها اليوم من جرائم الإبادة التي تُشَن على الشعبين الفلسطيني واللبناني..
في فلسطين تظهر البربرية والهمجية في أنصع صورها.. هناك حيث حوَّل العدو البربري والهمجي والمتوحش الماء والغذاء والدواء وحتى حليب الأطفال إلى سلاح وكأنه لا يكتفي بأحدث الأسلحة الأمريكية والغربية التي يقتل ويدمر بها كل شيء البشر والحجر والشجر، ليزيد من بربريته وتوحُّشه وهمجيته بتحويل أساسيات الحياة من مياه وأدوية وغذاء إلى سلاح ومباركة ما يُسمى بـ (العالم الحر) الذي تتزعمه أمريكا ودول الغرب الاستعمارية..!!
إن ملحمة فلسطين يكفيها -وأياً كانت نتائجها- أنها أسقطت أقنعة الزيف والخداع عن وجوه العالم، وعرَّفتنا حقيقة العرب والمسلمين وحقيقة العالم الذي ظل يسوّق لنا مفردات عن الحريات وحقوق الإنسان ليظهر أخيراً زيف ادّعاءاته، كما ظهر زيف ادّعاء بعضنا للعروبة والإسلام أنظمةً كانوا أو دولاً أو أحزاباً وأفراداً.. وهذا أعظم إنجاز حققته ملحمة طوفان الأقصى. |