الميثاق نت -

الأحد, 27-أكتوبر-2024
أسامة الخضر -
يقول الفيلسوف اليوناني أفلاطون (الإنسان مثلث الأبعاد عقل يستقرئ الحق وإرادة تستقطب الخير وحس يستقطر الجمال )(1) .
أفلاطون في هذه العبارة العميقة يشخّص ملكات الإنسان التي لازمته عبر تاريخه وهي العقل الذي يستنطق قوانين الكون وأسراره والغريزة الدينية التي تبحث عن الخالق والمبدع لهذا الكون ليجد المعنى والغاية من وجوده وليجد القوانين الأخلاقية التي تؤمّن له مسيرته في الحياة والعاطفة الجمالية التي تجذبه نحو التعبير الجمالي بمختلف الأدوات والأوعية لهذا التعبير.
ولأن مقالنا هنا عن الجمال فسيكون هو مناط الحديث..
إن الإحساس بالجمال فطرة إنسانية والفن في جوهره يعد نشاطاً معرفياً يمارسه الإنسان منذ أقدم العصور من أجل استكمال معرفته بالكون والحياة إذ يستكشف به الجوانب الباطنة الخفية التي لا يستطيع العقل العلمي الوصول إليها ولا شك أن الفن يرفعنا فوق مستوى المحسوس الذي يدركه العقل ويحررنا من سجن الحاضر المشهود الذي يتعامل معه العقل النفعي. وقد وجد الإنسان في نفسه ملكات ومواهب قادرة على التصوير وتجسيم الأحاسيس والمعاني في قوالب مشهودة صنعها بالحروف والكلمات في الشعر والنثر وبالخطوط والألوان في الرسم و بالأصوات والألحان والإيقاع في الموسيقى وبالكتلة في النحت والعمارة.
والفن في مختلف أشكاله هو محاولة البشر لتصوير المثيرات العديدة التي يتلقونها في حسهم من حقائق الوجود في صورة موحية مؤثرة توقظ الإحساس الجمالي المركوز في الفطرة الإنسانية ، ولقد عبر أحد أكبر المصورين في العصر الحديث هو (بول سيزان ) عن إيمانه بأن وراء المظاهر العديدة للطبيعة إنما تكمن حقيقة واحدة تتمتع بالدوام والإستمرار وأن ليس على الفنان سوى أن يحاول الكشف عن تلك الحقيقة التي تكمن وراء المظاهر السطحية (2).
إذن لا بد لنا في هذه الوقفة أن نبحث في الأسس السيكولوجية والمهارات العقلية التي تمتع بها الإنسان حتى يتذوق الجمال في الكون والطبيعة واستطاع من خلالها أن يرتفع عن دوّامة ضرورات الجسد وقيود الحياة الإجتماعية .


موهبة اللعب والخيال
يعتبر اللعب من أكثر جذور الفن فكل الكائنات تحب أن تستكشف البيئة المحيطة وأن تمارس مهارات فطرية وتنمّي امكاناتها العقلية والجسمية ويعتبر اللعب الذي يقوم به الطفل نوعاً من الممارسة لتطوير مهاراته وتعلّم قوانين الطبيعة فليس من المصادفة أن يطلق على الأعمال الدرامية والموسيقية اسم (Plays) أي اللعب، ويعتبر وجود الدماغ البشري وهو أعقد جهاز في الكون من أهم الأسباب التي وفرت للإنسان القدرة الفطرية على اللعب العقلي وهو ما نسمية بالخيال فالأطفال مثلاً يتعاملون مع العالم باعتباره كائناً حياً بمعنى أنسنة الطبيعة وهذه الملكة جوهر العملية الإبداعية فالفرق الجوهري بين العلم والفن أن الأول يجعل الإنسان منتج كوني أما الثاني فيجعل الكون منتج إنساني.
المحاكاة والتعبير الإيمائي
هناك غريزة انسانية وهي غريزة المحاكاة حيث تعتبر مشاهدة الآخرين وهم يتصرفون من المصادر الإدراكية لحب الاستطلاع والتعلم والمحاكاة هي الطريقة الأولى التي نكتسب من خلالها العديد من جوانب سلوكنا الثقافي مثل اللغة والأخلاق .
البحث عن الإثارة والخبرة البديلة
إن الوظيفة الأكثر وضوحاً للفنون هي أنها تقدم لنا التنبيه في عالم يهددنا بأشكال عديدة من الملل كما يوجد لدينا توق للخبرة والجدة من آجل الحفاظ على عقولنا في حالة معينة من النشاط من آجل الخبرة البديلة ، ولا شك إن الإنغماس في الخيال أحد اشكال الإثارة والهروب من الرتابة التي نعيشها في حياتنا اليومية وأحد الوسائل للتحول من حالة التسطح الإنفعالية النمطية.
قدرة العقل البشري على معالجة المعلومات
إن جهازنا الإدراكي مزود بالقدرة المرهفة على التمييز بين الأنماط الإدراكية والسمعية والبصرية وإدراك الجميل تتدخل فيها الذاكرة والمخيلة وإدراك العلاقات المتشابه.
إن قدرة العقل على فرض النظام على المثيرات العشوائية وعلى خلق مفاهيم مجردة مثل الأشكال والصور هي جوهر الفن والإبداع والعبقرية الفنية تغير من طريقتنا في فهم الأشياء فهي مثل درجة الحرارة المرتفعة التي لها القدرة على تفكيك تجمعات الذرات ثم تجميعها في ترتيب مختلف كليةً.
يقول عالم النفس الأمريكي د. نيل كسل ( عملية الإبداع في الفنون والعلوم تتميز في الغالب بالبحث عن جديد وعن أفكار كانت تبدو مختلفة أو منفصلة إلى حداً كبير فالعلوم والفنون تشترك في أن هدفها البحث عن النظام في التعقيد والوحدة في التنوع) .(3).
التطهير
ومعناه التحرر من التوتر وهو تحرر يفترض حدوثه نتيجة إطلاق العنان بقوة للانفعالات الحبيسة والمكظومة بداخلنا يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور ( الفن أداة مؤقته للتحرر من الألم) (4).
الترابطات عبر الحواس
هناك قدرة معرفية تعتبر أساسية للتذوق الفني وهي القدرة على التفكير المجازي فعندما نتحدث عن الخيال فنحن نعني بالتفوق للشكل البصري في النشاط المعرفي وقدرتنا على ترجمة أحاسيسنا إلى أشكال بصرية موازية كذلك القدرة الصوتية التي تتحول بفعل مهارة الفنان إلى صورة بصرية ومن هنا يأتي دور الفن في إعادة تشكيل الواقع إلى صورة سامية تصعيدية تثير اللذة والنشوة الجمالية.
يقول استاذ علم النفس الأمريكي د. بريان بود ( عندما نكون أكثر استعداداً أن نستخدم خيالنا وبقوة الثقة في قدرتنا على تشكيل الحياة بالشكل الذي نريد فالفن يستطيع تعديل علاقتنا مع العالم) (5)
قوانين الكون والطبيعة والإنسان
إن من أدق القوانين التي يخضع لها الكون بأسره هو الإيقاع فدورة الليل والنهار ودورة الفصول وضربات القلب المنتظمة وعملية التنفس وغيرها هذه الإيقاعات تجعلنا نستريح إذا وجدناها ونقلق بفقدانها فكانت الثمرة هي الإيقاع في الموسيقى والوزن في الشعر والسمترية أي التناظر في العمارة. وقد برهنت الدراسات العلمية أن خبرة الجنين المبكرة بضربات قلب الأم تجعل للموسيقى وإيقاعاتها أثراً ملطفاً على الأطفال الرضع ويساعد على النوم .
وبهذه المناسبة أحب أن أقول أن الشعر المنثور مهما بلغت طنطنة المؤيدون له فهو قد فقد الشكل الذي يغري بحفظه إننا نحفظ التحفة المحكمة الدقيقة ولا نحفظ حفنة من الرمال السائبة وانصار هذا الشعر يقولون أن القصيدة القديمة قائمة على الوزن الخارجي أما الحديثة فقائمة عن الإيقاع الداخلي ونقول لهؤلاء أنكم لم تتذوقوا الصنعة الإلهية المتقنة فلو كان لكم اتصال مع الكون والطبيعة لوجدتم أن الكائنات الحية قائمة على الإيقاع الداخلي وفي نفس الوقت لها الشكل والقالب والتناسب والسمترية الخارجية فلا تعارض بين الشكل والمضمون فالجمال هو الإيقاع والتناسب وليس السائل الملقى على الأرض الذي يفتقد القالب الذي يضمه..
إلى هنا نكون قد استعرضنا أهم الأساسيات السيكولوجية والمهارات العقلية التي جعلت الإنسان يتذوق الجمال ويبدع الفنون .
لكن يبقى السؤال ما هو سر العبقرية الفنية أو العلمية؟ الماديون يدندنون على أفكار سقطت علمياً وهي أن العقل البشري صفحة بيضاء ولا وجود للموهبة ولا للاستعداد الفطري إلا أن الدراسات العلمية الحديثة برهنت على أن الوعي البشري متصل بوعي كوني اسمى وللأسف المقام لا يتسع لسرد هذه الدلائل العلمية لكن سنكتفي باعترافات بعض العلماء ومنهم تشارلز دارون نفسه الذي اعتبر أن الإبداع الفني لا يمكن تفسيره على ضوء نظريته الكسيحة .
يقول تشارلز دارون ( أن الضرورة لا تستطيع تفسير ما حُبي به الإنسان من مواهب موسيقية فطرية وحيث أن الاستمتاع بالأنغام الموسيقية والقدرة على اطلاقها ليست من الملكات الذي تعود على الإنسان بأدنى منفعة في عاداته اليومية الحياتية فلا بد من تصنيفها في اعداد أكثر الملكات التي حُبي بها غموضاً) (6).
ويقول الفيزيائي الأمريكي د.جورج ستانسيو والفيلسوف العلمي د. روبرت أجروس( لما كان الجمال في الطبيعة بالغ الوفرة فلا يمكن أن يكون ناشئاً من الصدفة إذ لا بد له من سبب وليس هناك من ضرورة مطلقة تفرض أصلاً وجود الجمال في الكون والطبيعة وعلى ذلك يبدو أن الجمال ناشئ عن علة لا تحكمها الضرورة وهذه العلة هي العقل المسؤول عن جمال الكون وهذا العقل هو الله ) (7).
أما سر العبقرية العلمية والفنية فسنترك أثنين من أعظم عباقرة العلم والفن يفسرا لنا سر العبقرية.
يقول العالم والمخترع توماس أديسون ( الناس يقولون أنني خلقت أشياء أنا لم أخلق أي شيء لقد حصلت على مثيرات في الكون وعملت عليها لكنني فقط مجرد جهاز تسجيل أن الأفكار العظيمة تعد الهامات نحصل عليها من مصدر آخر خارج ذواتنا) (8).
ويقول أحد أعظم عباقرة الموسيقى وهو الموسيقار الألماني بيتهوفن ( الموسيقى هي التربة المشحونة بالكهرباء التي تحيا فيها الروح وتفكر وكل انتاج أصيل في الفن يرتد إلى القوة الإلهية) (9).
ومن هنا جاءت الفكرة عن دراسة جمال القرآن الكريم أن الدين والفن كلاهما انطلاق من عالم الضرورة وكلاهما شوق مجنح للكمال وكلاهما ثورة على ميكانيكية الحياة.
لقد اهتم القرآن الكريم – وهو أعظم معجزة إلهية – بالإقناع والإمتاع فقد نزل عند العرب الذين برعوا في فنون القول وتحداهم بنظمه العجيب وتراكيبه الفريدة ومعانية التي لا تخطر على بال واستخدام كل الأوعية الجمالية التي تبلّغ معانيه وأهدافه حيث استخدم الألفاظ الأنيقة والفواصل الإيقاعية المحببة والتصوير المثير والموحي وكان الفن القصصي الأداة الجميلة لكشف سنن الله تعالى في حركة التاريخ وسكب العبرة والموعظة.
لقد عرض القرآن تصوراً شاملاً للكون والحياة والإنسان وهذا التصور الشامل هو الذخيرة الموضوعية للفن .
وقد أعترف العديد من العلماء والمفكرين الغربيين بمعجزة القرآن الجمالية الخارقة ولنقرأ أمثلة منها .
تقول الباحثة البريطانية د.كارين ارمسترونج ( القرآن كنص هو بالتأكيد مثال مذهل غير عادي للإنسجام العميق بين الفن والدين) (10).
وتقول استاذة الدراسات اللغوية د. انجيلكا تويفرت وهي المانية الجنسية ( اعتقد حقاً أن القرآن قد أوقع الباحثين في الغرب في حرج إذ لم يتمكنوا من تفسير الظهور المفاجئ للقرآن بغناه في الأفكار وبيانه البديع في بيئة لم يكن فيها أي نص مكتوب مقدس ) (11).
ويقول المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير ( إن القرآن ليس معجزة بمحتواه وتعليمه فحسب إنه أيضاً وقبل أي شيء تحفة أدبية رائعة تسموا على جميع ما أقرته الإنسانية من التحف)(12).
ويقول المستشرق الفرنسي جوزيف ماردورس(أما أسلوب القرآن فهو الأسلوب الخاص بالله وكما أن الأسلوب يمثل جوهر الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب فلا يمكن أن يكون هذا الأسلوب إلا إلهياً)(13).
إن الذي يعتقدون أن هناك خصومة بين الإسلام والجمال هم واقعون في وهم مضلل فالقرآن ضد التجهم في النظرة إلى الحياة وضد إدارة الظهور إلى ما في الكون من آيات البهجة والزينة ولنقرأ بعض الآيات القرآنية وما ورد في السنة النبوية الشريفة التي تؤكد ذلك .
يقول تعالى ((إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ )) الصافات:6.
يقول تعالى ((وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ )) الحجر :16
يقول تعالى ((أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)) ق: 6
يقول تعالى ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ )) الأعراف :32
يقول تعالى ((وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) النحل : 5-6
ويقول تعالى (( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )) الأعراف :31
ونلحظ أن الآية القرآنية تدعوا الإنسان مطلق الإنسان (يَا بَنِي آدَمَ) وليس المسلمين وحدهم ذلك تنبيهاً على أن الجمال والتزين من مقتضى الفطرة الإنسانية وبذلك يسبق القرآن علماء النفس المعاصرين الذين قالوا ان الإحساس بالجمال غريزة أولية في الإنسان .
أما في السنة النبوية الشريفة فقد ورد الكثير من الأحاديث الداعية إلى الجمال والتزين يقول الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله جميل يحب الجمال) رواه مسلم والترمذي.
ويقول الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم : (زينوا القرآن بأصواتكم). رواه البخاري والنسائي.
وقد تحدث خادم رسول الله أنس بن مالك عن جانب التجمل والتزين في حياة سيد الأنبياء حيث قال (ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله، ولا مسست قط ديباجاً ولا حريراً ألين مساً من كف رسول الله ، لقد كان أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ) رواه مسلم والإمام أحمد
الخلاصـــــــــــــة:
لقد خلق الله تعالى الكون والطبيعة وبث فيهما الجمال والأناقة وخلق الإنسان ليتذوق هذا الجمال وبذلك يرتقي في معارج الأخلاق والمعرفة السامية وكانت كلمة الله والأخيرة للبشرية وهي القرآن الكريم جميلة فائقة الجمال.



الهـــــــــــوامش
انصاف الربضي ، علم الجمال بين الفلسفة والإبداع ، 1995م ،ص1.
أنظر : د. توحيد الزهيري ، الجمال في القرآن ، 2016م ، ص64.
نيل كسل، العبقرية ، سلسلة عالم المعرفة ، 1995م ، ص312.
أنظر : د. توحيد الزهيري ، المصدر السابق ، ص81.
See Brian greene,until the end of time, 2020, P233
جورج ستانسيو وروبرت آجروس ، العلم في منظورة الجديد ، سلسلة عالم المعرفة ، 1984، ص72.
المصدر السابق، ص77
See larry Dossey , one mind, 2013,p2.
انظر : العبقرية ، مصدر سابق ، ص240.
كارين أرمسترونج، الله والإنسان، 1996م ، ص156.
انظر د. سامي عامري ، براهين النبوة ، 2017م ، ص232.
انظر د. عبدالمحسن المطيري ، دعاوى الطاعنين ، 2006، ص157.
انظر د. سامي عامري ، المصدر السابق ، ص241
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:02 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-66746.htm