وجدي الأهدل - في أيامنا هذه لكل دولة من دول العالم دستور ينظم شئونها وإليه مرجع قوانينها، فمواد الدستور هي القواعد التي تُبنى عليها الدولة..
الدولة ليست القوات العسكرية والأمنية، ولكنها كتيّب صغير الحجم غالباً، ويُسمى الدستور..
أيّ بلد لا يمتلك دستوراً فإنه لم يصل بعد إلى مرحلة (الدولة)، وما هي إلا عصبيات تتنازع على السلطة، تارةً هذا يحكم وتارةً ذاك..
ومن الأمور العجيبة أن نجد في قصيدة شعرية لشاعر أندلسي المبادئ التي يمكن الاسترشاد بها لكتابة الدساتير في الدول العربية، وهي المبادئ التي لا يحبذها السياسيون العرب!
“شويخ من أرض مكناس” هي قصيدة من الزجل الأندلسي، للشاعر أبو الحسن الششتري (1212- 1269م).. والده أمير، وتقلَّد لفترة الوزارة، من مواليد الأندلس، وعاش لفترة في مكناس.. تخلَّى عن الجاه والسلطان وتجرَّد من أملاكه، ولبس الخرقة ولحق بالمتصوفة..
ونجد في هذه القصيدة الحكمة التي تتوافق مع الشريعة الإسلامية، والمبادئ التي تصلح دستوراً للدولة والإنسان المسلم على السواء:
شَوَيخْ مِن أرْضِ مِكْناس
وسْطَ الأسْواق يُغَنِّي
أشْ عَلَيَّا مِن النَّاس
وأشْ على النَّاسِ منِّي
أش عليّا يا صاحب
مِن جمِيع الخَلايقْ
والمادة الأولى التي يمكن أن نكتبها في الدستور هي أن المواطنين أحرار، بصورة متكافئة، فالمواطن له حق التمتع بحريته فلا يحق لأحد التدخل في شئونه، وبالمقابل يجب عليه عدم التدخل في شئون الآخرين..
هذا المبدأ هو من أعظم المبادئ، ويصلح أن يكون شعارًا للدولة الحديثة، وأيّ بلد لا يعمل فيه هذا المبدأ، فإنه بلد منكوب، تغيب عنه الدولة، وتتفشى فيه العنصرية بمختلف أشكالها العِرقية والمذهبية والمناطقية..
توصل الشاعر الششتري إلى أن أعظم فضيلة يتمتع بها الإنسان هي ألا يتدخل في شئون غيره.. ولعل الإنسان اليمني أحوج من غيره إلى هذه النصيحة، فاليمني بطبعه فضولي جداً، ويجد متعة عظيمة في حشر أنفه في كل شيء! هذه الآفة في السلوك البشري إذا استفحلت تؤدي إلى الحروب الأهلية وخراب الدول.. واللبيب بالإشارة يفهم..
يمكن للحاكم الحكيم أن يتميز بهذه الخاصية:
ألا يتدخل في الشؤون الخاصة لمواطني دولته.. ألا يفرض عليهم تفضيلاته الشخصية، ميوله العقائدية، آراءه الاجتماعية والسياسية، وأن يترك الشعب على طبيعته.. فن الحكم هذا كان معروفاً للقدماء، ولكن الآن يميل الحكام إلى حمل الشعب على التَّصَنُّع المؤدي إلى تدهور الدول.
نجد في قصيدة الششتري توكيدًا لعلاقة المواطن مع المواطن، وعلاقة الدولة بالمواطن:
ثم قول مبين
ولا يحتاج عبارة
أشَ عَلَى حَدْ مِن حَدْ
إِفْهَمُوا ذِي الإشاره
مبادئ أخرى يمكن الاسترشاد بها في كتابة الدستور هي “فعل الخير” و”الصدق”.. يقول الشاعر الششتري:
إِفْعَل الخيرَ تنْجُو
واتبعْ أهلَ الحقائق
لا تقُلْ يا بني كِلْمَهْ
إِلاَّ إِنْ كنتَ صادِق
خُذ كلاَمِي في قُرْطاس
واكتُبُوا حِرْزَ عَنِّي
من واجب الدولة أن تبني المدارس والمستشفيات والجسور والطرقات وسوى ذلك من المشاريع العامة، هذا فرض عليها، ولكن الدولة ذات التوجه الإنساني ينبغي عليها أن تساهم بشكل حاسم في الأعمال الخيرية، فتطعم الذي لا يجد ما يأكل، وتؤوي من لا يجد المأوى، وتداوي من لا يجد تكاليف العمليات والأدوية..
وإن هذا المسلك يجب أن يقتدي به كل مواطن، فيكون فعل الخير هو اهتمامه الحقيقي في الحياة، لا نشر عقيدة سياسية أو حزبية أو مذهبية ونحو ذلك من الاهتمامات النظرية الفارغة من فعل الخير بصورة عملية..
مبدأ مهم تقوم عليه الدولة الحديثة هو (الصدق).. ويبدو أن الدول العربية لم تتمكن من أن تصبح دولاً حديثة بسبب اعتمادها مبدأ (الكذب)، فهي تكذب على المواطن في نشرة الأخبار، وفي الخطابات السياسية، وفي الصحف ووسائل الإعلام، وتجعله يعيش ليل نهار في أضاليل لا أول لها ولا آخر..
مبدأ (الصدق) يُفترض أن يكون الفضيلة الأسمى في المجتمع، وبدون هذه الفضيلة يصبح المجتمع منحطاً وفاسداً ولا ينجح فيه أيّ شيء، فهو بلاءٌ على البشرية، وبلاءٌ أكبر على نفسه..
نصيحة الشاعر الششتري “اتبع أهل الحقائق” يقصد بها المتصوفة، وهي نصيحة متوقعة منه بما أنه من السالكين في درب التصوف، إلا أنه يمكن الاستفادة من هذه النصيحة في ترغيب الناس في فضائل الزهد والحياة المتواضعة البسيطة، وكف النفس عن الطمع والجشع في امتلاك العقارات وتكديس الثروات والتنافس المحموم على المكاسب الدنيوية..
ونلاحظ أن الشاعر الششتري لم يقدم النصيحة من فراغ، ولكنه بدأ بنفسه، فهو ابن أمير لكنه تنازل عن السلطة والثروة والحياة المرفهة، وفضّل أن يحيا حياة روحية شديدة التواضع والبساطة..
ما الفكرة التي يمكن للدولة أن تستلهمها من نصيحة الششتري؟ إذا تركنا المقصد المباشر وأخذنا المعنى، فإنه يتوجب على الدولة كف الصراع الرأسمالي على الثروات في المجتمع، بحيث لا يظهر هذا الخلل مثل ما هو مرئي في الدول الرأسمالية، حيث 1% من المجتمع يمتلكون معظم الثروة، و99% من المجتمع يتنازعون على الباقي..
علمًا أن هذه المجتمعات الرأسمالية تعالج هذا الخلل الخطير عن طريق قيام المليارديرات بوقف جزء من ثرواتهم للأعمال الخيرية، مثل بيل غيتس، لأن هؤلاء يشعرون بأنهم إذا لم يفعلوا ذلك، فإن المجتمع سوف ينهار لاحقًا انهياراً مدوياً..
نجد في الأبيات التالية للشاعر الششتري توجيهاً مهماً للسلوك الاجتماعي:
مَنْ عَمِلْ يا بْنِي طَيِّبْ
ما يُصِيب إِلاَّ طَيِّب
لِعُيوبُوا سَينْظُر
وفِعالُوا يُعَيِّب
إن المواطن الصالح هو الذي ينظر إلى عيوبه ويصلحها، أيّ أنه يتمتع بفضيلة النقد الذاتي.. وأما المواطن الرديئ فهو الذي ينظر إلى عيوب غيره ويريد أن يصلحها، فربما زاد الطين بلة، أو أدى سوء سلوكه باعتقاده الخير في نفسه ونفيه عن غيره إلى نشوب صدوع في المجتمع، قد تتوسع وتؤدي إلى تمزيق لُحمة المجتمع..
على الدولة أيضاً أن تتمتع بفضيلة النقد الذاتي لأداء مؤسساتها الحكومية وبرامجها العامة، بحيث تصحح نفسها بنفسها من حين لآخر، وتعدل سياساتها بما هو أنفع للصالح العام..
قصيدة “شويخ من أرض مكناس” من لون الزجل الأندلسي الشعبي، نظمها قبل سبعة قرون ونصف الشاعر الششتري وفيها يذكر قصة لقاءه بالشيخ المتصوف ابن سبعين، وهو المقصود بقوله “شويخ.. الخ”، والنصائح موجهة منه إلى الششتري، وبلسان الشاعر إلينا جميعًا، وعلى الرغم من بساطتها الظاهرية، وكلماتها شبه العامية، فإنها مترعة بِدُرَر الحكمة.
الهامش:
**القصيدة كاملة:
شَوَيخْ مِن أرْضِ مِكْناس
وسْطَ الأسْواق يُغَنِّي
أشْ عَلَيَّا مِن النَّاس
وأشْ على النَّاسِ منِّي
أش عليّا يا صاحب
مِن جمِيع الخَلايقْ
إِفْعَل الخيرَ تنْجُو
واتبعْ أهلَ الحقائق
لا تقُلْ يا بني كِلْمَهْ
إِلاَّ إِنْ كنتَ صادِق
خُذ كلاَمِي في قُرْطاس
واكتُبُوا حِرْزَ عَنِّي
أشْ عَلَيَّا مِن الناس
وأشْ على النَّاسِ منِّي
ثم قول مبين
ولا يحتاج عبارة
أشَ عَلَى حَدْ مِن حَدْ
إِفْهَمُوا ذِي الإشاره
وانْظُرُوا كِبْرَ سِنِّي
والعصي والغَرارَه
هكذا عِشْتُ في فاسْ
وكَذاكْ هُونْ هُونِي
أشْ عَلَيَّا مِن الناس
وأشْ على النَّاسِ منِّي
وما أحْسَنْ كَلامُوا
إِذْ يَخْطُر في الأسْواق
وتَرَى أهْلَ الحوانيتْ
تلْتفِتْ لو بالأعناقْ
بغرارة في عنقوا
وعكيكز وأخراق
شُوَيْخْ مَبْنِي عَلى أساس
كما أنْشَا اللهُ مَبْنِي
أشْ عَلَيَّا مِن الناس
وأشْ على النَّاسِ منِّي
لَرْ تَرَى ذا الشويَّخ
مَا أرَقُّوا بمعنى
إِلتفتْ لِي وقالْ لِي
أش نراكْ تَتْبَعْنا
أنَا نَنْصِبْ لِي زَنْبِيل
يَرْحَمُوا من رَحِمْنا
وأقامُوا بَيْن أجناسْ
ويقُول دَعْنِي دَعْنِي
أشْ عَلَيَّا مِن الناس
وأشْ على النَّاسِ منِّي
مَنْ عَمِلْ يا بْنِي طَيِّبْ
ما يُصِيب إِلاَّ طَيِّب
لِعُيوبُوا سَينْظُر
وفِعالُوا يُعَيِّب
والْمُقارِبْ بِحالِي
يَبْقَى بَرَّا مُسَيِّب
مَنْ مَعُوا طِيبَةَ أنفاس
يدْرِي عُذْرَ المغنِّي
أشْ عَلَيَّا مِن الناس
وأشْ على النَّاسِ منِّي
وكَذاكْ إِشْتِغالُوا
بالصَّلاهْ على مُحَمَّد
والرِّضَا عَنْ وَزِيروا
أبي بَكْرِ الْمُمَجَّدْ
وعُمَر قائِلَ الحقِّ
وشَهِيد كُلِّ مَشْهَد
وعَلِي مُفْتِي الأرْجاس
إِذا يَضْرِبْ مايْثِني
أشْ عَلَيَّا مِن الناس
وأشْ على النَّاسِ منِّي
يا إِلهِي رَجَوْتُك
جُدْ عَلَيَّا بِتَوْبَه
بالنَّبي قَد سألتُكْ
والكرامِ الأحِبه
الرِّجِيم قد شَغَلْني
وأنا مَعُوا في نُشْبَه
قد مَلاَ قلْبي وَسْوَاس
مِمَّا هُ يَبْغِي مِنِّي
أشْ عَلَيَّا مِن الناس
وأشْ على النَّاسِ منِّي
تَمَّ وَصْفُ الشُّوَيِّخْ
في مَعانِي نِظامي
وإِنِّي خَوَّاص ونُقْرِي
لأهْلِ فَنِّي سَلامِي
وإِذا جَوَّزُونِي
نقُل أوَّلْ كَلامِي
شُوَيْخْ من أرضِ مِكْناس
وسْطَ الأسْواق يُغَنِّي
أشْ عَلَيَّا مِن الناس
وأشْ على النَّاسِ منِّي
|