طه أحمد سعيد - بمعزل عن درامية الفيلم العربي "همام في أمستردام" للفنان الكوميدي محمد هنيدي الذي يحكي قصة مواطن عربي غادر وطنه مصر إلى هولندا ليعمل نادلاً في مطعم، ويكتشف أن أحد عمال المطعم "إسرائيلي" حاول أن يعمل علاقة معه متكئاً على اتفاقية "السلام" التي أقامتها دولته مصر، لكن هذا المواطن العربي رفض إقامة علاقة مع هذا الصهيوني، وكان كلما يشاهده يتذكر والده الشهيد في حرب أكتوبر ويتذكر مشاهد أطفال فلسطين وممارسات قوات الاحتلال؛ ومع إصرار هذا الصهيوني على صداقة "همام" اضطر لمغادرة المطعم والبدء في عمل خاص له بمساعدة صديقته الهولندية، غير أن هذا الصهيوني لم يترك همام بل ذهب للشرطة وقدم به بلاغات كيدية وعرَّضه لمشاكل كثيرة مع السلطات الهولندية، غير أن همام صمد واجتهد حتى عُرض المطعم الذي كان يعمل فيه للبيع فقرر أن يشتريه فدخل هذا الصهيوني منافساً له في المزاد على شراء المطعم، إلا أن همام تمكن بمساعدة صديقته الهولندية -والتي أصبحت زوجته لاحقاً ومساعدة أصدقائه من العرب والهولنديين- تمكن من امتلاك المطعم..
درامية الفيلم تعكس قِيَم الشعب الهولندي بمعزل عن السلطات، وأيضاً العلاقات التي تتكون بين المهاجرين العرب في بلدان المهجر بمعزل عن أنظمة أوطانهم..
بيد أن ما حدث مؤخراً بين مشجعين صهاينة لكرة القدم قَدِموا لهولندا لتشجيع فريقهم الرياضي مجبولين بقدر من الغرور والغطرسة، وما أن شاهدوا علم فلسطين يتدلى من إحدى النوافذ في المدينة حتى صعدوا ومزقوا العلم وسط دهشة الناس والمارة ومرددين شعارات معادية للعرب والفلسطينين، مطالبين بقتلهم وطردهم من هولندا، ليأتي رد الفعل التلقائي من العامة عرباً كانوا أو مسلمين وهولنديين من سكان البلاد الأصليين ضد غطرسة المشجعين الصهاينة لتتحول شوارع العاصمة الهولندية "أمستردام" إلى ساحات حرب ومواجهة بين الصهاينة والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية ومن مختلف الجنسيات في حرب شوارع دامت لأكثر من عشر ساعات لدرجة أن أخفقت الشرطة الهولندية في إيقاف المواجهات التي فعلاً هزت الأنظمة الأوروبية، ليضطر رئيس وزراء هولندا الصهيوني لمغادرة القمة الأوروبية المنعقدة في"بوداففي" ويعود إلى بلاده ويعتبر ما حدث يندرج كالعادة تحت يافطة "العداء للسامية"..!!
رئيس الوزراء الصهيوني اعتبر الأمر كذلك "عداء للسامية"..!
قبلها كان نشطاء هولنديون وعرب ومسلمون قد تقدموا بطلب للسلطات الهولندية طالبوا فيه بمنحهم ترخيصاً لمسيرة سلمية، غير أن السلطات الهولندية رفضت طلبهم وقررت منع المسيرات والتظاهرات، لكنها سمحت للصهاينة بالقيام بمسيرة تأييد للكيان في خطوة اعتبرها النشطاء شكلاً من أشكال العنصرية تمارسها السلطات الهولندية؛ فجاءت خطوة أحد الصهاينة الوافدين وهو بالمناسبة جندي صهيوني خدم في غزة وظهر في مقطع فيديو منتشر في شبكات التواصل يطالب بقتل العرب في فلسطين ونسائهم وأطفالهم، ومن الصدف العجيبة أن مواطناً يمنياً يقيم في أمستردام هو من عرف هذا الجندي الصهيوني وأبلغ أصدقاءه، لتبدأ ثورة "السنوار" في شوارع أمستردام، ثورة تحدى فيه العرب والمسلمون والسكان الأصليون في هولندا موقف وإجراءات السلطات الرسمية التي اعتبروها غير نزيهة ومنحازة لقَتَلة الأطفال ومجرمي الحرب..!
الحدث لم يكن عابراً لدى قادة الكيان الصهيوني ولا لدى القادة الأوروبيين الذين اعتبروا الحادث شرارة أولية لما سيترتب عليه المشهد الأوروبي برمته كجزءٍ من تداعيات حرب الإبادة التي تُشن ضد الشعبين العربيين في فلسطين ولبنان وهو ما دفع القيادات الأوروبية إلى إعادة ترتيب أوضاعها الاجتماعية على خلفية ما شهدته أمستردام والذي سوف يتكرر في أكثر من دولة أوروبية، كما دفع الصهاينة إلى منع مشاركة مستوطنيهم في أي فعالية رياضية تُقام خارج الأرض المحتلة، وأجبرت أحداث أمستردام القادة الأوروبيين المجتمعين في مدينة "بودابست" على مناقشة الظاهرة في قمتهم باعتبارها خطراً يهدد نسيجهم الاجتماعي واستقرار دولهم وأنظمتهم خاصة وهناك تعاطف رسمي غربي مع الكيان الصهيوني، وتعاطف شعبي عارم مع الشعب الفلسطيني واللبناني، أي أن الحادث كشف حالة الانفصام بين القيادات الأوروبية وشعوبها، فيما قادة الكيان اعتبروا الظاهرة كـ "جبهة ثامنة" عليهم الاستعداد لمواجهتها..!
الحدث لم يكن متوقعاً صهيونياً ولا أوروبياً، ولهذا كان التعامل معه موزعاً بين ذعر الكيان ومستوطنيه وبين ارتباك ونفاق السلطات الأوروبية التي أخفقت حتى في التعاطي الأخلاقي والقانوني مع الحدث، حين راحت تحمّل أنصار القضايا العربية المسؤولية، متجاهلةً الاستفزاز الصهيوني ومتغاضيةً عنه، ومن ثم إدراج الحدث في سياق العِداء للسامية، الأمر الذي استفز أنصار فلسطين فخرجوا بعد هذه المواجهة الساخنة، في مسيرة تحدٍّ عارمة شارك فيها طلاب الجامعات رافعين شعارات منددة بالصهاينة وبمواقف السلطات الرسمية الهولندية..
الحادثة تعكس حقيقة راسخة انطبعت في ذاكرة الرأي العام العالمي وشعوب العالم عن الصهاينة الذين لم يعد مرحَّباً بهم من قِبَل شعوب العالم الحرة بغض النظر عن مواقف أنظمة هذه الشعوب، كما أن ما حدث في أمستردام من رد فعل شعبي لم يحدث في أي دولة عربية مطبّعة لا يزال قادتها ومواطنوها يقابلون الصهاينة بالأحضان، إضافة إلى أن انتهاء الحرب سوف يفتح على الكيان أبواب جهنم وأن حياة العزلة للكيان وقادته ستبقى هي إحدى ثمرات ومنجزات هذا العدوان، وأن المناضل يحيى السنوار لم يرحل بل سيظل يواجه الكيان ومستوطنيه في كل مدن العالم وليس أمستردام وحدها، ولهذا قرر القادة الصهاينة منع مستوطنيهم من المشاركات الخارجية أياً كانت وفي أي بلد غربي كان حتى إشعار آخر، وهذا بحد ذاته أحد منجزات الشهيد المناضل يحيى السنوار وأبطال معركة طوفان الأقصى الذي تتواصل أمواجه إلى كل قارات العالم، فإذا ما انتهت هذه الحرب سيجد الكيان نفسه وقادته ومستوطنوه أمام إعصار شعبي عالمي يقف أمامهم حيث تطأ أقدامهم الهمجية.
|