د. أيوب الحمادي - في محاضرة لي كانت قبل عام في اليمن، تحدثت عن التفوق الغربي في المجسات والحواس والذكاء الاصطناعي والانفاق الفلكي، وأين التوجهات بشكل سريع.. ومجمل حديثي كان أن هناك أدوات مختلفة يجب نهجها بالإمكانات المتاحة ولو في الحدود الدنيا، لنجعل النظام التعليمي في بلدنا قابلاً للاستمرار والتطوير، وأقلها تشجيع المواهب، وإيجاد الحوافز، وتطوير البنية التحتية، وتنظيم بيئة العمل، ودعم الأبحاث بما هو متوافر، والعمل في إطار الاستراتيجيات الكبيرة للجامعة، ومنها الوزارية والحكومية، ومن ثم التبني التجاري والمجتمعي.. وقلت كون البلد في آخر سلم التنمية، يظل أي جهد خارج بوابة التعليم للاستقرار فشلاً، وهنا لن يظل أمامنا إلا أن نصعد على أكتاف العمالقة لنعرف الطريق، وبدل أن نظل بين الأقدام نتخبط ونكسر رؤوس بعضنا بصراعات دون معنى ولا تنتج ثروة.. ولو رجعت اليوم أتحدث في أي جامعة يمنية سوف أعيد نفس الحديث، لأسباب عِدة، أقلها أنني أجد المجتمع اليمني سوف يكون من المجتمعات الخاسرة، ولا توجد فرص أخرى لنجد مجتمعنا بين الأمم غير التعليم ثم التعليم..
ففي غضون 10 سنوات قادمة، أي نفس عمر الصراع اليمني، سوف يصبح الذكاء الاصطناعي الفائق حقيقة واقعة، والذي سوف يكون بعد ذلك أكثر ذكاء من البشرية جمعاء.. الحديث هنا من وجهة نظري 100 مرة أكثر ذكاء أقلها، لأن العملية ليست خطية للتقديرات وإنما أسية..
ولكم تصوُّر ذلك، ان من سوف يمتلك ذلك الذكاء أو أدواته سوف يسيطر ليس على الأسواق والإنتاج والمال والسلطة، وإنما حياة البشر، ونبض الدول وعلى الكوكب بشكل عام.. فلا يغرنكم وقتها لا جيوش، ولا زوامل، ولاشيء لأن الحروب المستقبلية سوف تكون محسومة من قبل أن تبدأ أصلاً، حروب الآلات الفائقة والتفوق التقني لاسيما والإنفاق العسكري في الريبوتات والأسلحة الذكية، في البيانات وتحليل سلوكيات البشر من بوابة الذكاء الاصطناعي أرقام فلكية اليوم..
ولتبسيط ذلك، لأني على ثقة بأنه نستسهل الأمر، ان الذكاء بوجهة نظري لا يمكن قياسه بمؤشر، وإنما لنستخدم ما هو متعارَف لفهم الأمور بين السطور، وننظر كيف لإنسان مثلنا في مجتمعنا ذكاؤه لايتجاوز 150 IQ سوف يحارب منظومة تقنية فائقة تمتلك 10 آلاف IQ، أو 100 ألف IQ مثلاً، وكأنه مخ واحد، بمعنى سوف يكون الصراع وقتها يشبه صراع النملة، وهو نحن المجتمعات الهشة مع الإنسان، فاذا لم تدخل النملة إلى المنزل أو قرب مائدة الطعام للمجتمعات الرأسمالية فلن نسحقها، وسوف نتعامل معها أنها دون معنى، وإنما سوف نتركها بما أنها بعيدة، ومهما صورنا حالنا وقتها فلن يزيد حجمنا أمام الرأسمالية المتفوقة دون تعليم عن النملة، ولن نكون شركاء وإنما أتباع، وحتى الثروة التي تحت أرجلنا ونتصارع عليها لن نتملكها إنْ ظل لها قيمة، ولن تكون أصلاً أمام ثروة المعلومات ذات معنى حقيقي..
إذا صراعنا مع الغرب في بوابة التقنية وتملك المعرفة والقرار والسيادة يشبه صراع النملة والإنسان، مما يجعلنا نخسر كل معاركنا المستقبلية أولاً، وثانياً سوف ننزف العقول اليمنية إن وُجدت، لأنه لا يمكن أن تقبل الاستمرار في مجتمع لا يريد أن يكون مع الركب الحضاري..
فكمية الإنفاق في الذكاء الاصطناعي والريبوتات للتفوق العسكري أرقام فلكية ومرعبة لديهم.. اليوم عندما أنظر مثلاً ان نظام ذكاء اصطناعي واحد كلف تدريبه 100 مليون دولار وبوجود 25 ألف GPU فإن ذلك يجعلني أتصور أين سوف ننتهي، حيث وجامعتنا اليمنية لا تمتلك حاسوباً بشكل حديث، أو شبكة ترابط معرفي، أو انترنيت متاحاً ذا معنى للطلاب والباحثين.. أنا لم أتحدث عن كادر تعليمي مرهق مالياً ونفسياً، ولم أتحدث عن بيئة مدمرة من الأساس..
كل ذلك يجعلنا نشعر بالقلق لاسيما إذا نظرنا لمستقبل الرأسمالية العنيفة في استغلال الشعوب لمصالحها، حيث لن يبقى بيدنا شيء غير نطوبر على سلات الغذاء.. فالصراع الخفي الآن بين الغرب والشرق والروس، يتمحور حول منظومة الذكاء الاصطناعي والمجسات والحواس والرقائق الإلكترونية، وما دون ذلك في التقنية أمور نسبية، ونحن لم نجد بعد المنهج..
ولو نظرنا لحالنا ليس كمجتمع يمني وإنما عربي فسوف نجد أننا في عالم -مهالنيش- فلا جامعات حديثة ولا مناهج ولا قدرات ولا رؤية ولا إمكانيات ولا بيئة استقطاب وإنفاق للذكاء الاصطناعي باستثناء الإمارات والمملكة، وفوق ذلك من يريد يتعلم من أبنائنا وبناتنا في اليمن والدول العربية نريده يدفع وبالدولار، ونريد نتاجر حتى معه في العملية التعليمية، مما يصيبنا بمقتل.. وهنا طبيعي أن يرحل الجميع بعدها إلى الغرب أو الشرق، بعد أن يجد أن أهله كانوا يدفعون قيمة تعليمه، ولم يجد الدولة التي تشجعه ليبني وطناً ومشروعاً يكبر، ونستغرب وقتها لما نرحل وننزف ونحن لم نترك فرصة حتى لاحتمالات أن نبني مجتمعاً معرفياً ووطناً للجميع..
فالغرب وكوريا والصين ليسوا أذكى مِنا، لكنهم بنوا في مجتمعاتهم في بوابة الإنسان من وقت مبكر، لذا نجد التقنية هي من تسحب المجتمع لديهم وتصنع تنمية وإنتاجاً واستقراراً..
نجد العملية التعليمية تنتج فرص عمل وتوجد شركات انطلاق؛ شركات الانطلاق هي الخلايا المنتجة لأي مجتمع وهي من تغيّر البشر.. وأعطيكم هنا مثالاً: شركة تقنية مولودة من رحم العملية التعليمية الحقيقية تأسست في عام 1993م من العدم؛ شركة تأسست في سنوات الاغتراب لنا ونحن ما زلنا نبحث عن وطن؛ حجمها في السوق العالمية أكبر من أمة العرب؛ وكلما ارتفع صراخنا من الهزائم، قالوا الخلل أننا أمة بعيدة عن الإسلام، أمة اقرأ بنفطهم وغازهم أقل من شركة تقنية واحدة، فما هي المعركة التي تريد أن تحسمها هنا، وأنت مجرد نملة، وكيف يمكن لك أن تنتصر إلا ببيع الوهم..؟!
شركة واحدة لديهم من رحم العملية التعليمية اهتمت بتطوير الحوسبة المرئية والرقائق الخاصة بالحوسبة الفائقة للذكاء الاصطناعي؛ ولن أتحدث عن الشركات المتعددة.. هذه الشركة حجمها المالي أكبر من الدخل القومي للوطن العربي.. نحن نتحدث هنا عن شركة واحدة قيمتها 3500 مليار دولار، أي أكبر من الدخل القومي لليمن لـ 145 عاماً؛ إذا استمر حالنا بالصراع والفوضى، فهل يعقل أن كل الوطن العربي من المحيط إلى الخليج إنتاجه القومي أقل من القيمة السوقية لشركة إنفيديا؛ ونريد أن نكسب معتركاتنا القادمة، هل يعقل أنه إلى اليوم لم نفهم من الخاسر الآن في هذه الطفرات التقنية، يعني لن يكون هناك فرص أخرى غير أن نظل للأبد نعيش حياة النمل بين البشر..
ومختصر الأمر نحن لا نعيش اليوم ثورة صناعية فقط وإنما نعيش ثورة ذرات السليزيوم، أنها سوف تتملك وعياً وإدراكاً، وأقداماً لتتحرك، مما يعني سوف تتغير حياة البشر للأبد، لأن هذه الثورة عكس كل الثورات الصناعية السابقة لم يعد الإنسان هو المحور وإنما هو الأضعف.
|