الميثاق نت -

الأربعاء, 08-يناير-2025
د. عبدالوهاب الروحاني -
أكثر من مناسبة وأكثر من لقاء جمعني بجار الله عمر.. تحاورت معه (شخصيا) في قضايا التصالح والتحضير للوحدة في أواخر الثمانينيات، وفي أهم حضور علني له في صنعاء، حينما جاء لمقابلة الرئيس صالح، ليس كممثل للجبهة الوطنية والحزب الاشتراكي، وإنما كمحاور رئيس في تقريب وجهات النظر من أجل الوحدة.. التقيته في منتديات وجلسات خاصة بعد الوحدة أيضاً، كان ضمنها لقاءات مصادفة مع الرئيس صالح (رحمه الله)، الذي تأكد لي أنه كان يحترم جار الله عمر بقدر حذره منه.. قال عنه ذات مرة: "جار الله من أكثر الاشتراكيين نزاهة ومصداقية"، كان ذلك بعد مشادة كلامية بينهما حضرتها في خيمة الرئيس بـ(دار الرئاسة) على خلفية التوترات السياسية والإعلامية قبل فوضى 1993م، التي حركها الاشتراكي في صنعاء..

أول لقاء جمعني بجار الله عمر كان في فندق رمادا حدة في صنعاء قبل عام من قيام دولة الوحدة (1990م).. كان في أهم محطات تواجده في صنعاء بعد تجاوز رهان السيطرة عليها بـ"العنف الثوري"، وفي إطار الترتيبات التي كانت تتسارع في نهاية الثمانينيات لإعادة تحقيق الوحدة، حين كان الرئيسان علي عبدالله صالح من صنعاء، وعلي البيض من عدن يتسابقان لاختطاف النصر العظيم بإعلان مبادرات الوحدة..

كان جار الله يقيم في الفندق محاطاً بحراسة مشددة بمداخل الفندق وممراته، ذلك لأن حمايته كانت مسئولية الرئاسة، فهو زعيم اشتراكي ماركسي "كافر" في نظر اليمين الديني المتطرف، وكان هدفاً ثأرياً محتملاً لأهالي ضحايا أعمال العنف والتخريب في المناطق الوسطى، وفوق كل هذا بدا لي (حينها) أن الرئيس صالح أراد أن يشعر جار الله بأن حياته معرضة للخطر دون حمايته (وكانت كذلك)، وهو ما كان يوحي به لكثير من المعارضين لسياسته..

دخلت بهو الفندق ومررت بثلاث محطات حراسة، الأولى والثانية أمنية (رسمية) عند مداخل الفندق، والثالثة حراسته الشخصية على باب الجناح الذي يسكنه.. بسيط ومتواضع، من لا يعرفه لا يفرّق بينه وبين حارسه الشخصي.. كلاهما بقامة قصيرة وشنب، وعيون حادة، بادرني مرحّباً بطريقته:
- أهلاً يا ابن الروحاني، تعجبني مشاغباتك، ولو أنك تقسو في بعضها.. وكان يقصد ما كنت أكتبه من نقد لتجربة الحزب في الجنوب في عمودي الأسبوعي "الكلمة موقف" في صحيفة 26 سبتمبر بعد سلسلة زيارات مهنية قمت بها لعدن، في إطار توحيد نقابة الصحفيين اليمنيين مع زملاء وممثلي منظمات مهنية وإبداعية..

كان لطيفاً جداً، قابلني بابتسامة عريضة ونظرات تبرق ذكاء وحِدة، وكأننا أصدقاء وعلى سابق معرفة، حديث طويل بدأ خاصاً وودياً، ثم بحروب الجبهة، والمصالحة، والأحزاب، والترتيب لمسار الوحدة وشكلها ونظامها، وانتهى بتأثير انهيار المنظومة الاشتراكية بزعامة موسكو على نظام الحزب والدولة في الجنوب، ومدى تأثره بـ"الغلاسنوست السوفييتية"، فقال مبتسماً " يا عبدالوهاب، نحن أكثر الشعوب حاجة للمكاشفة والمصارحة حتى نصحح وضعنا ونبني دولتنا، إن أردنا أن نبني دولة يمنية حديثة وموحدة..."، الكثير من الحقائق حول المشهد السياسي وتناقضات اللحظة كانت تنساب بسلاسة على لسانه..

شفافية ورسائل

في حديثه صادق وشفاف لدرجة ملفتة، أوصل من خلاله رسائل كثيرة للرئيس صالح، وللقيادات السياسية اليمنية من أقصى اليمين الذي كان مناهضاً للتوحد مع "النظام الشيوعي الكافر" في الجنوب إلى أقصى اليسار الرافض للوحدة مع "النظام الرجعي المتخلف" في الشمال.. كان جار الله مع المقاربات السياسية بين القوى والأحزاب، وكان يرى "أن الجميع معني بالحاضر والمستقبل، بينما خلافات الماضي يجب أن نتركها لمحاكمة التاريخ"..

امتلك جار الله عمر روح المبادرة، وعُرف بديناميكيته ونشاطه المؤثر في الوسط السياسي لقوى اليسار عموماً؛ فبعد البروستريكا والغلاسنوست (الإصلاح والشفافية) السوفييتية في حقبة غورباتشوف وتداعياتها على بلدان المنظومة الاشتراكية كان هو أول من دعا إلى الاصلاحات وتبنى التعددية السياسية والحزبية، وحرية الرأي والتفكير في الشطر الجنوبي قبل الوحدة، وهو أول من دعا بعد الوحدة، وفي آخر كلمة له قبل اغتياله الى "تفعيل الديمقراطية بداخل الأحزاب" واعتبرها "ضرورة لتجنب الصراعات وحماية الاوطان من التشظّي وويلات العنف والحروب الداخلية"..

ديناميكية جار الله عمر السياسية ورؤيته التجديدية في المواكبة والتحديث، مكنته من أن يلعب دوراً مهماً في تحريك ملف الوحدة؛ فكان من وقت مبكر ممسكاً بملف الاشتراكي في الشمال، وكان هو الأقرب إلى فهم نظام صنعاء والتركيبة القبلية والاجتماعية التي كانت تحكمه، وكان - بالتأكيد - مع فكرة قدرة الاشتراكي على احتواء القوى السياسية والاجتماعية في ظل الوحدة، وتغيير النظام بما يتوافق مع منهج الاشتراكي، غير أنه كما معظم قيادات الحزب اصطدمت بنتائج أول انتخابات برلمانية في العام 1993م حيث حصد الحزب المركز الثالث بعد المؤتمر (حزب الرئيس)، وحزب الإصلاح (إخوان)، الأمر الذي لم تستوعبه ولم تتقبله أبرز قياداته وعلى رأسهم نائب الرئيس علي سالم البيض، الذي اعتبر النتائج انقلاباً على الوحدة، التي قامت على قاعدة التوافق والمناصفة بين النظامين الشطرين السابقين..

كانت التوترات السياسية تشير إلى انسداد وضع الشراكة السياسية بين الشريكين (الحزب الاشتراكي، والمؤتمر الشعبي)، وكنا في وسائل إعلام المؤتمر والاشتراكي جزءاً من تلك التوترات، وانشغلت وسائل الإعلام العربية والأجنبية بالتطورات التي قادت خلال العام 1993م إلى حملة تفجيرات ومحاولة اغتيال طالت الكثير من قيادات الاشتراكي، بدأت بمحاولة اغتيال وزير العدل د. عبدالواسع سلام، وأنيس حسن يحيى، وعلي صالح عباد (مقبل)، ثم اغتيال عضو اللجنة المركزية للحزب العميد ماجد مرشد، وتفجيرات بمنازل يحيى حسين العرشي (مؤتمر)، وياسين سعيد نعمان (اشتراكي)، ولما كنت رئيساً لتحرير صحيفة "22 مايو" (مؤتمر) وممثلاً لجريدة الخليج (الإماراتية) في صنعاء كنت -بالتأكيد- منحازاً لرواية المؤتمر في تفسير الأحداث، الأمر الذي أزعج الاشتراكي (وهو المهتم كثيراً بالإعلام الداخلي والخارجي)، وأبلغني الأستاذ يحيى المتوكل (الأمين العام المساعد للشئون السياسية للمؤتمر) استياء جار الله عمر مما أكتبه في "الخليج"، وقال "ربما أنه قد تواصل برئاسة تحرير الجريدة، وشكا إليهم عدم حيادية ما تكتبه".. وبدا لي أن الأستاذ المتوكل حريص على استمرار تواصلي بـ "الخليج"، فوعدته رغم انشغالي بـ"صحيفة 22 مايو" وعضوية مجلس النواب..

في اليوم التالي، وبهدوء أوصلت رسالتي لإدارة تحرير "الخليج" وقلت بالحرف "ما أكتبه يعبر عن فهمي لمجرى الأحداث في صنعاء، وإذا كنتم ترون غير ذلك فيمكنكم الاستعانة بمن ترونه مناسباً"، وبذلك انتهى تواصلي مع "الخليج"، وكان الزميل صادق ناشر (اشتراكي) هو البديل.. لم أكن مهتماً بالأمر كثيراً، ولربما كان جار الله محقاً، ولكنها رواية أوردها هنا لتبيان انزعاج وتأثر جار الله عمر بأحداث 1993م، التي قادت إلى إحداث ذذذ الشرخ الكبير في علاقة شريكي الدولة والوحدة.
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 09-يناير-2025 الساعة: 04:56 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-67071.htm