الميثاق نت -

الإثنين, 10-مارس-2025
حوار:علي سالم المعبقي -
المقابلة نُشرت قبل سنوات في صحيفة الحياة. وتقدم للقارئ فرصة لمعرفة فلسفته في الحياة :

مات عميد العزاب وشاعرهم الأجمل. مات عبدالله قاضي كما عاش مشرداً يتلفع طمأنينة الروح، في بلد يتداوله الجهلة والقتلة واللصوص نأى قاضي بنفسه عن ضجيج الحياة مكتفياً بتأمل الموت الذي باغته بعد طول انتظار. لهذا لم أتفاجأ بموته لكنني أشعر بالذنب لتقاعسي عن رؤيته قبل مماته ولا أجد من عزاء لنفسي سوى إعادة نشر حوار أجريته معه قبل اندلاع الحرب ففي هذا الحوار الكثير ما يعكس حالة عبدالله قاضي وأفكاره..
فيما يلي نص الحوار :

هل مازالت لك صلة بالشعر؟

- ليست لي صلة بأي شيء. لا بالشعر ولا بغيره. صلتي الوحيدة بالموت. إنه الصديق الوحيد الذي أحاوره دائماً. الشعر كان الوجه الآخر للموت. وقد تقابلنا الآن وجهاً لوجه. لقد توافقت مع الموت أكثر مما أتوافق مع الشعر.

وهل لهذا صلة بطبيعة الحياة التي تعيشها الآن؟

- الحياة التي أعيشها هي القصيدة التي لم أكتبها بعد. قصيدة نحياها حياة. هذا إذا كنت تعدني من الشعراء.

لكنك شاعر معروف؟

- ربما كان مجيئنا إلى الشعر مجرد خطأ محض. لقد جئنا الشعر من دون اختيار أو إرادة. الشاعر الذي تعدوني إياه لا أعرفه. بل أنا أبحث عنه.

لكن ثمة قصائد تنسب إليك؟

- لم تعد تلك القصائد هي أنا. والأمر لا يستحق كل هذا العناء. كان الأمر محض تسلية ربما وقد تجاوزها الزمن. لربما لم تكن قصائدي من تلك القصائد التي تستعصي على الوقت. بل هي قصائد بليت وماتت. لو كانت قادرة على البقاء لبقيت. المرء يجد نفسه في مأزق عندما يصدق ما يقال عنه. لسنا على تلك الصورة التي يرانا فيها الآخرون. ليس هذا تواضعاً أو غروراً. فلا يمكن للمرء أن يرى نفسه من بعيد.

هل هذه حال الامتلاء؟

- لا. لست في حالة امتلاء بل قل العكس فأنا فارغ تماماً، «لقد أصبح فؤاد أم موسى فارغاً». فراغ لم يعد يحرك أي نازع عندي لا فرح ولا حزن.

هل فقد الشعر أهميته بالنسبة إليك؟

- لا. فالشعر يكتسب الآن أهمية أكثر من أي وقت مضى. خصوصاً في هذه الأيام. لم يحدث أن فقد الشعر أهميته في أي وقت. ربما كان الشعر هو الوجود ذاته. عملية الخلق ذاتها شعر. والكون قصيدة تمشي وتتحرك، الأوهام والأماني والأحلام قصائد، معظم الحقائق أو ما نعدها حقائق ربما كانت مجرد أوهام. لربما كان الوهم أم الحقائق وأباها أيضاً.

ولِمَ هذه القطيعة مع الشعر؟

- نحن لسنا كما نشاء أو كما نريد، بل هكذا يجد المرء نفسه. ربما لم أكن أكثر إخلاصاً ووفاء مع الشعر أو من محبيه الأوفياء.

ولِمَ هذه العزلة التي تعيشها؟

- لست في عزلة. فأنا أعيش مع العالم من كل الجهات. وضعيتي التي تتحدث عنها لا تحتاج إلى تفسير. لربما كنا نحمّل الأشياء أكثر مما تحتمل، فأنا آخذ الأمور ببساطة وعفوية.

لكنك تبدو نافراً من الوجود؟

- بالعكس. أنا مقترب منه بحميمية إلى حد الالتصاق، لدرجة أن الوجود صار يضيق مني ومن حضوري الطاغي، ولهذا كان الموت.

هل يعني هذا أن ما نراه وما هو على الواجهة ليس بالوجود الحق؟

- لست فيلسوفاً لأتحدث في هذه المواضيع. ولم أكن أحلم أن أقابل أحداً، ولكأن حواري معك مجرد عكاز آخر يضاف إلى عكازي هذا.

لكن لديك رؤيا؟

- ربما أنت تتصور هذا، لا أحتمل أن أكون بهذه الصورة التي تتحدث عنها، أو هذا الشخص المفترض في ذهنك، أنا أبسط من كل ذلك.

أليس ما تعيشه صمتاً؟

- نعم. هذه هي القصيدة التي يصعب أن نكتبها فنعيشها. ثمة قصائد تعاش ولا تقال. أو يصعب قولها، لربما كان الصمت الأكثر تعبيراً عن هذه الحالة.

هل نعتبر ما كتبته ضرباً من اللعب؟

- سمّه ما تشاء. والحياة هي أيضاً لعب حتى من منظور الدين «وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب»، والفن في أشكال متعددة لعب، وربما كان وجودنا ضرباً من اللعب.

ألا يتعلق زهدك هذا بنوع من البحث عن مثال خاص للشعر؟

- ليس زهداً، وأتمنى لو كان كذلك. وليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

هل هذا المثال الشعري الذي لا تقدر على خلقه هو ما يجعلك على هذه الحال؟

- ربما كان ذلك صحيحاً. هذا المثال كان في يوم ما أمامي. كان يحدث وقد حدث فعلاً، وإذا كان هناك ثمة شيء فلا بد من أنه سيوجد وسيخلق.

وما هو تعريفك للتجربة أو النموذج الذي ترى أنه يرقى إلى معنى تجربة؟

- ليست ثمة نماذج، لو كان في الأمر نموذج لسلمنا بتجربة، بل الأمر أعصي من كل هذا، أن يتوقف المرء عن الكتابة فهذا لا ينقص أو يزيد من الأمر شيئاً.

يبدو المنتج الشعري اليمني وقد توقف عند نقطة معينة.. وقلما عثرنا في المنشور منه على ما يشي بتطور؟

- هذا الكلام يمكن أن يقال في أي وقت وزمن، لأننا دوماً نبحث عن الأجمل والأجود. وليس صحيحا ما ينطوي عليه سؤالك. فداخل هذا الكم الشعري ثمة نوعية شئنا ذلك أم أبينا.

تبدو منهك الجسد وتشيخ.. ألا يعني لك هذا شيئاً...أقصد أفول الجسد؟

- أنا من الأشخاص الذين لا يهتمون بالجسد قط، وهذا شيء يملأني أسى لكوني لم أهتم بجسدي، على رغم أنني أحياناً أكون حسياً لدرجة كبيرة.

عزلتك هذه ألا تعبّر عن اشمئزاز من الحياة؟

- لا. ليست اشمئزازاً. فأنا لا أشمئز من الناس ولا من الحياة إطلاقاً حتى وإن ابتعدت. ربما كان الناس هم من يرون ذلك، فهذا الابتعاد عن الناس ربما كان التصاقاً بالأشياء التي لا تغادرنا.

وهل لهذا صلة بفهم خاص للحياة؟

- هذا أمر حاصل بالنسبة إلى حياتي، فلا أهمية عندي لثنائية الروح والجسد ولا أوليها اهتماماً، أعيش وحدتي بحميمية وليس فيها ذلك الانفصام الذي تعتقده. وإذا ما أوردتها (الثنائية) فمن قبيل المثال المدرسي ليس إلا، فليس عندي هذا النوع من الفصل والتقابلات.

هل تواتيك الكتابة؟

- أنا أتحدث فقط، ولم أعد أكتب منذ زمن طويل. ربما كانت الكتابة لعبة لم أستطع أن أكملها.

ماذا يعني لك الخوف؟

- الخوف ملازم لطبيعة الإنسان. وأنا في الحقيقة يسكنني الخوف ويلازمني، وكأن الخوف هو الوجه الآخر للحياة التي أعيشها، لكن لا علاقة لهذا الأمر بالتوقف عن الكتابة. ثمة خوف كلي لا يستطيع المرء أن يحدد أين يبدأ وأين ينتهي.

أليس في وطأة الخوف منع؟

- ليس الخوف إلى درجة أن يمنع المرء من أن يحيا الحياة، والإنسان لا يخاف من الحياة أبداً، بل يخاف أن يسيء إلى الحياة أحياناً.

هل تحضرك فكرة الموت دائماً؟

- نعم دائماً ما يحضرني الموت ولا يفارقني. وقد أعلنت موتي قبل سنوات طويلة. عشت عالم القبور والمقابر وتعفرت بهوائه. خضت تجربته وتمليت صمته.

لماذا اخترت هذه الوجهة التي أنت عليها؟

- لم اخترها أنا بل لقد اختارتني هي. لو كان الأمر بيدي لاخترت وجهة أخرى ووليت وجهي غير هذه الوجهة التي قادتني جبراً إليها، فأنا من المؤمنين بأن المرء ليس كما يريد.

هل للمكان هذا القدر من الألفة والفاعلية؟

- نعم إلى أبعد الحدود. وفي هذا حدّث ولا حرج، أحس وكأنني إذا غادرت المكان أغادر جسدي. المكان هو محتوانا وماهيتنا.

إلى أي مدى يحضرك الخطأ والصواب؟

- مسألة الخطأ والصواب تقليدية جداً، ثمة أخطاء كثيرة هي من الصواب، وثمة صواب هو في الصميم خطأ. لا حسم في هذه المسألة.

هل ثمة حدث ما ربما قادك إلى ما أنت عليه؟

- ليس ثمة حدث محدد، إنما هو حدث الولادة الذي سينتهي بحدث الموت. ويبقى وجودنا هو الحدث الأكبر والأكثر إبهاماً. لم نخيّر قبل أن نولد إذا كنا نريد أن نوجد أم لا، لو خيرنا قبل ولادتنا لما اخترنا أن نوجد، والأرجح أننا لم نولد بعد. قد تكون ولادتنا الحقة آتية في مقبل الأيام.

هل تؤمن بحياة أخرى؟

- جداً جداً. وهذا ما يشدني إلى الحياة. «الناس نيام فإذا ماتوا استيقظوا».

أليست حياتك هذه نتاج تصورات معينة؟

- (يضحك) أنا مجرد شخص من اليمن أضع العمة على رأسي لأنه صار أصلع. اتعكز بعكازي هذا وليست ثمة بوهيمية. حتى وإن كنت من هواة الفوضى الخلاقة ليس بالمعنى الأميركي السياسي، ولكن لبورخيس مثال آخر.

ألا تبحث عن شهرة ما ولكن بصورة معكوسة؟

- أخاف أن أكون إنساناً مشهوراً، ولا أحب الشهرة. تستهويني الحياة العادية. رحم الله صاحب قبر لا يُعرف.

تمت طباعة الخبر في: الثلاثاء, 11-مارس-2025 الساعة: 03:28 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-67258.htm