الميثاق نت -

الإثنين, 16-يونيو-2025
أصيل علي البجلي -
في دهاليز السياسة الدولية المعقدة، وداخل نطاق المساحة الرمادية للصراعات غير المتكافئة، تتجلى المواجهة المباشرة التي شهدتها الساحات الإقليمية اليوم بين كيان العدو الصهيوني المتهالك والجمهورية الإسلامية الإيرانية العظمى كواحدة من أعقد المعضلات الاستراتيجية الراهنة. إنها ليست مجرد تبادل لإطلاق النار، بل هي اشتباك ردعي إقليمي تكتنفه طبقات متعددة من التعقيدات الجيوسياسية والعسكرية والأمنية، وقد أفضت التطورات الأخيرة إلى ضرورة إجراء تحليل معمق يفند الأبعاد الخفية لهذا الصدام، مستشرفاً تداعياته المحتملة على موازين القوى في المنطقة والعالم.

استقراء الدوافع: "الردع المتبادل" في مواجهة "المقارعة الوجودية"
يمكن قراءة الهجوم الصهيوني المحدود الذي استهدف الأراضي الإيرانية - والذي جاء رداً على الرد الإيراني غير المسبوق قبل أيام قليلة على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال قادتها الأبرار - في سياق مذهبية "إدارة الصراع" التي طالما تبنتها تل أبيب، فمنذ عقود، درج الكيان على ممارسة سياسة الضربات الوقائية والاستباقية، أو ما يُعرف بـ "المعركة بين الحروب"، دون أن يواجه رداً مباشراً يؤثر على عمقه الاستراتيجي.
كان الهدف من هجوم اليوم، وفقاً للتحليلات المتاحة، هو محاولة استعادة صورة الردع المتآكلة، والتأكيد على قدرته الوهمية على اختراق الأجواء الإيرانية، مع تجنب التصعيد غير المنضبط الذي قد يدفع المنطقة إلى حرب شاملة، إنه توازن دقيق بين إعادة تعريف قواعد الاشتباك وإدارة المخاطر في ظل ضغوط دولية مكثفة تُمارس عليه، خشية الرد الإيراني المزلزل.
في المقابل، فإن الرد الإيراني الأولي، الذي سبقه بضربة صاروخية وجوية واسعة النطاق وغير مسبوقة ضد أهداف عسكرية صهيونية، يمثل تحولاً نوعياً في عقيدة الردع الإيرانية. لطالما اعتمدت طهران على استراتيجية "الصبر الاستراتيجي" و"الرد غير المتماثل" عبر محور المقاومة المبارك في المنطقة، لكن هذه المرة، تم تفعيل مفهوم "الردع المباشر"، أي الرد من الأراضي الإيرانية، لكسر القاعدة التي رسخها الكيان الصهيوني بأنه يستطيع ضرب الأهداف الإيرانية دون عواقب مباشرة.
الهدف كان إرسال رسالة مفادها أن قواعد اللعبة قد تغيرت، وأن أي عدوان مباشر على السيادة الإيرانية سيواجه رداً مباشراً ومحسوباً، وإن كان مخططاً له لتقليل حجم الخسائر البشرية مع إحداث تأثير استراتيجي يزعزع أمن الكيان، لقد أرادت إيران أن تثبت قدرتها على اختراق المنظومات الدفاعية الصهيونية، وإن كان بموجات هجومية واسعة تمتصها تلك الدفاعات بفعالية نسبية، إلا أنها حملت دلالة استراتيجية عميقة في سياق "مقارعة وجودية" أصبحت تديرها طهران مباشرة.

تحليل ميداني للمواجهة: اختبار القدرات والتأهب الدفاعي
من الناحية العسكرية البحتة، كشفت هذه المواجهة عن جوانب مهمة في القدرات العسكرية للطرفين:
القدرات الصهيونية والدفاعات الغربية: أظهرت المنظومة الدفاعية الصهيونية، مدعومة بمنظومات أمريكية وبريطانية وفرنسية، كفاءة عالية في اعتراض الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية، هذا يؤكد على تفوق نوعي في مجال الدفاع الجوي الصاروخي، ويعزز من نظرية "القبة الحديدية متعددة الطبقات". ومع ذلك، فإن حجم الهجوم الإيراني الأول، الذي شمل مئات المقذوفات، شكل ضغطاً هائلاً على هذه الأنظمة، ما يطرح تساؤلات حول قدرتها على الصمود أمام هجمات أضخم وأكثر تعقيداً في سيناريو حرب شاملة، كما أن التنسيق اللوجستي والاستخباري بين الكيان وحلفائه الغربيين كان عاملاً حاسماً في إفشال جزء كبير من الهجوم، ما يكشف عن شبكة دفاع جوي إقليمية فاعلة لحماية الكيان، أما الهجوم الصهيوني على الأراضي الإيرانية اليوم، فيبدو أنه جاء ليؤكد قدرة الاختراق، وإن كان بحجم ضئيل ومدروس لتجنب رد إيراني واسع، خوفاً من تبعاته المدمرة.
القدرات الإيرانية وتحديات الاختراق: على الرغم من اعتراض الغالبية العظمى من المقذوفات الإيرانية في الرد الأول، إلا أن حقيقة وصول بعض الصواريخ إلى الأراضي الصهيونية المحتلة، وإصابة أهداف محدودة، تحمل دلالة رمزية وعسكرية. لقد كشفت إيران عن قدرة على إنتاج كميات كبيرة من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، وأنها تستطيع إطلاقها بشكل متزامن لإرباك الدفاعات المعادية. التحدي الأكبر لإيران يكمن في تطوير قدرات صاروخية أكثر دقة، وقادرة على التخفي أو المناورة لتجاوز أنظمة الدفاع المتقدمة، كما أن الاعتماد على الموجات الهجومية الكبيرة، حتى لو كان الهدف هو استنزاف الدفاعات، يثير تساؤلات حول فعالية التكلفة في حال استمرار التصعيد، ويأتي الرد الإيراني على هجوم العدو متسماً بالهدوء والغموض، ما يشير إلى استراتيجية عدم الدخول في حلقة تصعيد مفرغة، أو انتظار لحظة مناسبة لرد أكثر إيلاماً يدفع ثمنه العدو أضعافاً مضاعفة.

الأبعاد السياسية والاستراتيجية: نحو قواعد اشتباك جديدة أم تصعيد محتوم؟
على الصعيد السياسي والاستراتيجي، أسفرت هذه المواجهة عن نتائج متعددة الأوجه:
تآكل الردع المتبادل: لقد دخل الطرفان في مرحلة جديدة من تآكل الردع، فكيان العدو لم يعد يمتلك "حرية العمل" المطلقة ضد الأهداف الإيرانية دون رد مباشر، وإيران أثبتت أنها قادرة على الرد، وإن كان ردها محسوباً لتجنب حرب كبرى، هذا يفتح الباب أمام قواعد اشتباك جديدة، حيث قد تصبح الضربات المتبادلة المباشرة، وإن كانت محدودة، جزءاً من المشهد الإقليمي.
دور القوى الإقليمية والدولية: أظهرت هذه المواجهة أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين لن يقفوا مكتوفي الأيدي في حال تعرض كيانهم المدلل لهجوم واسع، هذا يضع قيوداً على هامش المناورة الإيراني، ويؤكد على التزام أمريكا بأمن إسرائيل كركيزة أساسية لسياستها في المنطقة، ما يضعها في موقف العدو الصريح لأمتنا، في المقابل، فإن غياب رد فعل عربي وإسلامي قوي وفاعل، باستثناء بعض الإدانات الخجولة، يسلط الضوء على تشرذم الموقف العربي وتأثيره السلبي على القضية الفلسطينية التي تظل المحرك الرئيسي لهذه التوترات، والتي من أجلها نتحرك في اليمن.

تداعيات على ملف إيران النووي: قد تدفع هذه الأحداث كيان العدو وحلفاءه إلى تشديد الضغط على إيران بخصوص برنامجها النووي، بدعوى "سلوكها العدواني"، وهذا قد يعيد ملف النووي الإيراني إلى واجهة الأجندة الدولية بحدة أكبر، لكن إيران الصامدة لن تتراجع عن حقوقها.

استشراف المستقبل: على حافة الهاوية أم توازنات جديدة؟
إن مستقبل المواجهة بين كيان العدو وإيران محفوف بالمخاطر، فبينما يسعى الطرفان إلى استعادة أو تعزيز قوتهما الردعية، فإن الخطأ في التقدير أو تجاوز الخطوط الحمراء يمكن أن يدفع بالمنطقة إلى صراع واسع الندم.. السيناريوهات المحتملة تتراوح بين:
* الردع المتوازن مع استمرار التوتر: حيث تستمر الضربات المكتومة أو المحدودة، لكن مع تجنب التصعيد الشامل.
* التصعيد التدريجي: في حال عدم التزام أحد الأطراف بقواعد الاشتباك غير المعلنة، ما قد يؤدي إلى توسع رقعة الصراع.
* الحرب الشاملة: وهو السيناريو الأسوأ، والذي قد ينجم عن ضربة استراتيجية لأحد الأطراف تستدعي رداً شاملاً من الطرف الآخر، وحينها ستكون هذه الأرض محرقة للغزاة.
يبقى الأكيد أن المنطقة تمر بمرحلة مفصلية، تتطلب أعلى درجات اليقظة والتقدير الاستراتيجي، فالمغامرات غير المحسوبة قد تحرق الأخضر واليابس، وتغير خريطة الشرق الأوسط بصورة جذرية وغير قابلة للإصلاح..
إن هذا الصراع، بمصطلحاته العسكرية والسياسية، يمثل حقلاً خصباً للدراسة، ويكشف عن طبقات معقدة من التفاعلات التي تتجاوز حدود الجغرافيا وتضرب في عمق التاريخ والجيوسياسية، وسيظل محور المقاومة هو الرمح الذي يكسر شوكة الغطرسة الأمريكية والصهيونية في المنطقة.
تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 16-يونيو-2025 الساعة: 02:04 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-67595.htm