حسن عبد الوارث - حين كنا صغاراً – بعمر الورود والسنابل – كانت أوتار القلب لاتعزف سوى لحن واحد ، هو الفرح .. وكانت أشعة العين لاترى سوى لون واحد ، هو البراءة .. وكانت تلافيف الذاكرة لا تحفظ سوى كون واحد ، هو الطفولة !
وحين كبرنا – وكبرت معنا وفينا احلامنا وآلامنا – ضاقت مدارات الرؤية بحدائق الطفولة الجميلة ، وغابت عن شفق الرؤيا كل اطياف اللهو البريء الضحوك وكل أقواس الحلم الوردي الطروب !
كان للطفولة لون الياسمين ورائحة البحر وطعم الدهشة وموسيقى السماء ... كانت صباحاتها بيضاء ولياليها وردية ..
كانت 'قوس قزح' يمشي مَرحِاً بل يطير مُجنّحاً .. وكانت تاريخاً منفلتاً خارج حدود الزمكان !
كانت .. وكانت .. وكانت .. ولا أقسى على الانسان من أن تغدو أجمل مراحل عمره واحلى أيام حياته فعلاً ماضياً ناقصاً .. وأشد قسوة أن تكون عودة – ولو لحظات من تلك الايام – مستحيلة !!
ولا يشعر المرء بالحنين إلى زمن الطفولة إلاَّ حين تزداد متاعب الحياة وطأة على أعصابه ، وتزداد مصاعب الدنيا ثقلا على كاهله ..
وكلما اضطرمت نار الصراع – بمختلف ألوانه وصنوفه – في وعي ووجدان الانسان ، وتراءت له تلاوين شتى من الهموم والآلام وأسباب الحزن والكآبة ، يزداد حنينه إلى 'أيام زمان' البريئة ، ويتعاظم شوقه إلى حياة الطفولة بكل ما تحمله من براءة ومرح وضحك وحلم ولهو .. أمناً مطمئناً من مخالب الدنيا وأنياب الحياة .. وكل ألوان العداء والخصومة والصراع القبيح !
تواترت في ذهني هذه الخطوط وأنا أعيد – في مخيلتي الصدئة – مشاهدة وترتيب صور متنوعة ومناظر عديدة تربطها جميعاً هوية واحدة هي 'الطفولة' .. ولم أكن لأرى في كل صورة سوى البراءة ، ولا أجد في كل منظر غير المرح .. ووجدتني أهمس لنفسي بتلك الامنية البائسة اليائسة '(ألاليت الطفولة تعود يوماً ...) !
ولكن .. لماذا يجبر الانسان نفسه على التوغل في الشقاء ... والاستغراق في الحزن ، والاستسلام للكآبة ، والاضطرار – هروباً – للحنين إلى أيام الصفاء والنقاء واللهو .. أيام البراءة المطلقة !!
إنه سؤال ساذج وبليد .. أليس كذلك؟! .. نعم .. إنه كذلك ، في زمن صارت فيه البراءة نبتاً شيطانياً .. زمن شعاره خنجر مسافر في وريد العنق ، من محطة في الظهر !!
|