الأحد, 18-مايو-2008
الميثاق نت -          محمد حسين العيدروس -
حتى قبل فترة قصيرة كانت بعض القوى السياسية تنظر إلى مطلب انتخابات المحافظين على أنها مطلب تعجيزي لن تجرؤ القيادة السياسية على خوض غماره، لأن مفهوم السلطة في أدبياتها السياسية بأنها لا يمكن أن تكون إلا مركزية .. والدولة لا يمكن أن تدار إلا بنظام شمولي .. والقرار الأول والأخير لا يمكن أن يعطى لشعب تتعامل معه على أنه جاهل وقاصر في إدارة شؤونه، خلافاً لما تعتقده قيادة اليمن السياسية التي جعلت من انتخابات المحافظين مشروعا لرهانها الانتخابي الرئاسي.
لا شك أن النظر لشعبنا على أنه قاصر عن اتخاذ أي قرار ويجب فرض الوصاية السياسية والدينية والثقافية عليه هو أمر يفسر الكثير من معاناة شعبنا في الماضي الذي جردته فيه العهود السياسية القديمة حتى من حق امتلاك بيت أو عقار أو حتى ورشة يعتاش منها فازداد فقراً فوق فقره بينما شعوب العالم كانت تتطور وتبني مستقبل أجيالها كما أن ذلك النهج هو نفسه الذي جعل شعبنا محكوماً بأنظمة كهنوتية تدعي أنها لا تنطق عن الهوى، بل تنفذ أمر الله رغم أن الخالق وسعت رحمته كل شيء بينما هي طال ظلمها البر والبحر.
ولعل ذلك اللون من الثقافة السياسية لم يكفل عصر الحداثة له نهاية، فامتد شيء منه إلى ثقافة عصرنا الحالي لنجد بين القوى السياسية من لا يزال يفكر بأنه وصي على اثنين وعشرين مليون مواطن، وانه ممثل شرعي لكل واحد منهم، وأنه يجب أن يستحوذ على كل مقدرات البلد، وأن تؤول خيرات الوطن إلى كيسه ليقسمها بمعرفته، كونه ينظر إلى جميع الآخرين على أنهم أما قاصرون لا يحسنون التصرف بسلطة أو مال، وأما متخلفون يجهلون إدارة شؤون بلادهم ومواردها، وأما بلا إيمان ومبادئ وأمانة.
ومن هنا تولدت الفجوة في الوعي والإحساس بين تلك القوى وبين أبناء شعبنا الذين باتوا عندما يؤول القرار إليهم عبر صناديق الاقتراع ينبئون بقوة أصحاب ذلك المنهج المتخلف الذي لا يتفق مع واقع ما وصلوا إليه من وعي وإدراك وطموح، كما لا يتوافق مع مرارة معاناتهم التي قاسوها طوال حقب قاحلة عاشوها تحت نير مثل تلك السياسات الاستبدادية الإلغائية للآخر، والتي تنتهك أبسط حقوق المواطن وهي أن يمتلك انسانيته وشخصيته الاعتبارية بغير وصاية من أحد.
لا شك أنه إذا كانت التعددية الحزبية التي اطلقتها قيادة اليمن السياسية تمثل نقطة تحول باتجاه الانعتاق من الثقافة الشمولية والوصايات المختلفة، فإن انتخابات المحافظين التي خاض استحقاقها أبناء شعبنا تمثل حقبة ما بعد الانعتاق، وهي حقبة امتلاك القرار السياسي وممارسة الصلاحيات الواسعة التي تأخذ على عاتقها تجريد الخيار التنموي والإرادة الوطنية من أي تدخل خارج نطاق التقسيم الإداري للمحافظة، والذي من المقرر أن يمتد إلى مستوى المديريات في الفترة القادمة بانتخاب مدراء المديريات.
وبطبيعة الحال فإن هناك بين القوى اليمنية من ترى في مثل هذا التحول الكبير ضربة قاصمة لما تمارسه من مركزية تنظيمية داخل أحزابها، ومن فكر انغلاقي على وسائلها الحزبية التي عفا عليها الزمن دون أن تقتنع بضرورة انفتاحها على الأساليب الديمقراطية الحديثة التي يتحلى بثقافتها أبناء المجتمع اليمني بمختلف شرائحه.
فوقوفها بعيداً عن واقع ما تطورت إليه الحياة اليمنية بمختلف مجالاتها، وإصرارها على البقاء بعيداً عن الديمقراطية الداخلية للتنظيمات والأحزاب والشفافية وتدوير المراكز القيادية داخل المربع الأول لقيادة أحزابها، جعلها كل ذلك في حالة هلع من أن تفقد مركزية قراراتها، وأن تجد فروعها في المحافظات قد اتخذت خيارات خاصة ومستقلة تناسب أوضاعها، إلا أنها تتقاطع مع النهج التسلطي الشمولي الذي تمارسه القيادة العليا وتفرضه على مختلف التكوينات التنظيمية.
ومن هنا نستطيع القول أن مخاوف البعض من خوض تجربة انتخابات المحافظات لم تكن تنبع فقط من إدراكه المسبق للهزيمة الانتخابية، فذلك - بتقديري - سبب ظاهري غير مباشر لازم بعض الأحزاب من نشأتها الأولى، وإنما لخوفه من تحول الأطر الجديدة للحياة السياسية إلى وبال على نهجه الشمولي في قيادة الحزب أو التنظيم الذي لا يعترف بأي حق لخيارات القيادات الوسطية، أو القواعد الجماهيرية في الاستقلال بقرارها، حيث أن أدبيات هذه الأحزاب تصف مثل هذه الممارسة بـ «الانقلاب» مادامت القرارات لا تخرج من تحت عباءة القيادة المركزية العليا.
وبالتالي فهناك عجز داخلي عن التعامل مع الحالة الجديدة، طالما وأن عقليات القيادات العليا في دائرة صنع القرار «التنظيمي» ظلت هي نفسها منذ سنوات طويلة، كما لو كنا أمام أحزاب «ملكية» تتوارث المناصب جيلا بعد جيل.
اعتقد أن على بعض القوى السياسية إعادة التفكير مليا في أدبياتها السياسية لأنها أصبحت بعيدة جداً عن واقع الحياة السياسية التي يعيشها شعبنا، كما أصبحت هناك فجوة شاسعة بينها وبين المجتمع، بل والأخطر أن هذه الفجوة تتسع أكثر داخل تكويناتها التنظيمية نفسها، وبما ينذر بحدوث انهيار مريع في بناها، قد تنعكس آثاره السلبية أيضاً على الحياة الديمقراطية اليمنية التي لا يمكن أن تحقق مرادها بغير وجود قوى معارضة قوية وناضجة ومدركة لدورها في تقويم أداء السلطة وإحداث التغييرات التي تخدم مصالح الوطن العليا.
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 03:16 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-6939.htm