الجمعة, 06-يونيو-2008
الميثاق نت -       سالم صالح محمد * -



بعض الشعارات والرؤى والأفكار العظيمة لا تأتي من فراغ أو ترف وإنما تأتي من وسط المعاناة الإنسانية والأزمات والكوارث التي تلحق الضرر بالإنسان والبيئة والحياة على هذا الكوكب الأزرق الجميل، رفعها بعض الزعماء والساسة والمفكرين في عالمنا بعد تلك الحروب والكوارث الطبيعية والأزمات الطاحنة التي تعتبر تحديات صعبة أمام الأمم والشعوب.
الشعوب العربية والأمة العربية واحدة من هذه الأمم التي واجهت في العصر الراهن كوارث وأزمات وحروباً جمة تمثل أولها في تلك الحقبة الاستعمارية وما فرضته من استعمار وتقسيم للأوطان ونهب للثروات.
انتهت هذه الحقبة بعد انتصار نضال الشعوب، وجاءت حقبة جديدة بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين بكل تلك التبعات من جراء الحرب الباردة بين “المعسكرين”، وما ألحقته من أضرار بالأمة، وإن لعبت التوازنات الدولية والإقليمية ووجود مؤسسات دولية فعالة دورها في تخفيف الأزمات والمعاناة ونتائج الحروب.
كافة الشعوب تخلصت من حقب الاستعمار والاستيطان غير العرب الذين ابتلاهم الاستعمار البريطاني بإيجاد الكيان الصهيوني الذي احتفل الشهر الماضي بسنواته الستين، وهذا الكيان قام على الحرب والعنف والكراهية والحقد والتطرف الذي هو نتاج العقلية المتطرفة للصهيونية العالمية.
المشهد القائم اليوم في المنطقة برمتها لا يختلف من حيث المضمون عن تلك الحقب السابقة، فهو قائم على التدخل العسكري المباشر والتطرف والعنف والإرهاب واللجوء إلى استخدام القوة، ومع الأسف تدعم هذه النزعات والاتجاهات الإدارة الأمريكية الحالية التي تتدخل بشكل مباشر وبجيوشها في أفغانستان والعراق وفلسطين وغيرها من البلدان، يعطيها هذا الحق تلك السياسات المتطرفة لبعض الأوساط المتشددة في إيران وباكستان وغيرها من البلدان والتنظيمات المتطرفة ممن تصدر أفكارها المتعصبة دينياً أو مذهبياً أو قومياً.
ما يخفف من المأساة والمعاناة العميقة ويعطي الأمل هو نضال الشعوب وتضحيات أحرارها وحكمائها ووجود تلك الدساتير المتقدمة والمؤسسات الحية للشعب الأمريكي والشعب البريطاني والفرنسي والألماني وغيرها من الشعوب الأوروبية، القادرة على إسقاط سياسة كهذه متطرفة ومتغطرسة ومغايرة للمبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان والتسامح الإنساني.
لذا فالأمر الذي يقع على حكوماتنا وأحزابنا وشعوبنا بعد الصدمات الأخيرة، آخرها الاحتكام إلى السلاح في لبنان، وقبلها ما حصل في غزة بين الأشقاء الفلسطينيين ورفضهم لكافة الجهود التي قام بها أشقاؤهم في المملكة العربية السعودية (اتفاق مكة)، وفي اليمن (اتفاق صنعاء)، والجهود المصرية اليومية، هو العمل الواضح والصريح لرفع شعار “التسامح” وفرضه كواجب وفلسفة وعمل دائم لضبط التوازن والاعتدال في خطاب الآخرين والتعامل معهم نظرياً وعملياً دون ضرر ولا ضرار، ليكون التسامح الفلسفة القادرة على لجم التطرف والتعصب والعنف والتشدد والقسوة في التعامل اليومي مع بعضنا بعضاً، وفي وقت ما تفرزه تلك الثقافات لتلك الأوساط المتطرفة لهذه الطائفة أو المذهب أو الحزب في الوصول إلى أهداف سياسية أو مصلحية مؤقتة وعلى حساب الروابط والمصالح الوطنية والإنسانية لكل طرف.
التسامح لا يعني “الطبطبة” على الخدود والمجاملة الآنية، وإنما ليصبح التسامح حقيقة ملموسة في الحياة وبرنامج تتبناه كافة المؤسسات في التعامل القانوني والديني والفكري والثقافي وينعكس في المواثيق والدساتير والقوانين النافذة التي تخلد وتمجد “إن الإنسان أخو الإنسان”، ومن منطلق قوله تعالى “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها” سورة النساء.

يتحدد مفهوم التسامح بتوفر العناصر التالية :
* قبول تنوع واختلاف ثقافات عالمنا واحترام هذا التنوع.
* التسامح موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني والحريات الأساسية للآخر.
* التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية السياسية والثقافية والديمقراطية.
تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته، والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الآخرين. (المرجع إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح للمؤتمر العام لليونيسكو 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995).
لا يوجد طريق آخر في العالم ولعالمنا العربي غير هذا الطريق، طريق الحوار ونبذ التطرف والعنف والتشدد، واستخدام السلاح والإكراه والإرهاب وفرض حالة الطوارئ المعلنة وغير المعلنة لتعميم الخوف وسلب حرية الناس.
جميعنا صدمنا بما حصل في بيروت وجميعنا فرحنا بالنتائج التي توصل إليها الفرقاء اللبنانيون في الدوحة، لأنهم أخذوا بفلسفة التسامح للوصول إلى صيغة التعايش الوطني والديني والمذهبي، وجميعنا ننتظر بحماس إلى (حماس وفتح) للوصول إلى إعادة اللحمة الفلسطينية وما يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني على قاعدة التسامح، وتنتظر الشعوب الإخوة العراقيين والسودانيين والصوماليين والجزائريين واليمنيين والمصريين.. إلخ الأخذ بهذه الفلسفة لحل الصراعات القائمة.
وبصفتي مواطنا من الجزء العزيز على هذه الأمة، فقد تحققت الوحدة اليمنية في إطار هذه الفلسفة وهذا المنهج، وبتلك السماحة والتسامح الوطني والأخلاقي والسياسي بالتنازل والاعتراف ببعضنا البعض.
وجاءت حرب العام 1994 بتداعياتها كطعنة لهذه التوجهات، واستمرار حروب صعدة وظاهرة الإرهاب وغيرها من التحديات الصعبة تتطلب الدعوة في وطني إلى رفع شعار التسامح في هذه المرحلة للولوج إلى الحوار ورفع سقف الحوار والتشديد عليه ليصبح نافذة الأمل المطلوب وسط التشدد والعنف والاحتكام إلى السلاح الذي سيوصل الأمور إلى التدهور، وانسداد آفاق الحلول التي تتطلبها الحياة المشتركة لكل الناس بغض النظر عن الانتماء المذهبي أو الطائفي أو المناطقي أو الحزبي.
إنني أرفع صوتي مع من قال “ارفعوا شعار التسامح فهو أوكسجين الحياة مثلما التعصب هو ثاني أوكسيد الكربون”، فلقد سبقتنا شعوب ارتبطت أساساً بصراعات داخلية بين قوى اجتماعية وصراعات دينية أبرزها ما شهدته أوروبا في القرن السادس عشر بين الكاثوليك والبروتستانت حيث انتهى الصراع إلى التسامح، وانتشر هذا المفهوم في القرن التاسع عشر ليشمل مجالات الفكر وحرية التعبير وليتضمن جوانب اجتماعية وثقافية بالغة الغنى والتنوع.
إن التسامح هو قبول الآخر على علاته وعلى اختلافه والاعتراف بحقوقه في الوحدة والحرية والسعادة، فالإنسان ليس شريراً بطبعه، وإنما هو شرير عندما تقتضي الحاجة إلى الشر والعنف والغلبة والقهر أمور ترتبط بالشروط الاجتماعية لوجود الإنسان.
أخذ الزعيم (غاندي)، محرر الهند بهذه الفلسفة منطلقاً من عقيدة بوذا (رفض العنف والتواضع في احترام الآخر والتحرر في نقد الذات ورفض الجهل)، وأصبحت فلسفة القارة الهندية المتعايشة، كما أن الزعيم نيلسون مانديلا قد أخذ بها بعد الانتصار التأريخي على العنصرية ونظام “الأبارتيد” في جنوب إفريقيا، حيث قال عبارته المدوية “نعم للصفح، لا للنسيان”، وأصبحت فلسفة التسامح فلسفة القارة الإفريقية.
إن أوضاعنا العربية بكل هذه الصدمات والأحداث المتدهورة ينبغي أن لا توقف مسيرة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية وتعزيز مساحة الحركة كمنظومة مترابطة متكاملة هي الكفيلة بتعزيز الولاء للأوطان وللقضايا الكبرى، والتي هي أساس ومرجع العلاقات بين الناس وليس الانتماء الطائفي أو المذهبي أو المناطقي الذي سيكون عندها من العادات الماضية الغريبة التي سيتذكرها المواطن باستغراب، كما أن احتكاك المجتمعات ببعضها البعض وتشابك المصالح فيما بينها جعل من التسامح والتعايش والاتصال والحوار المفتوح ضرورات لتحقيق مصالح المجتمعات جميعاً.
إن الأمة العربية والإسلامية بزعمائها وقادتها وحكمائها وعلمائها وشعوبها وموقعها الجغرافي، وبما تمتلكه من مقومات حضارية وثقافية ومادية قادرة على إعادة دورها وتأثيرها بين الشعوب “كنتم خير أمة أخرجت للناس”، متى ما عدلت والتزمت وأخذت بما سار عليه الخلفاء الراشدون، حيث قال العادل رضي الله عنه عمر بن الخطاب: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.
وقال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حول أهمية التسامح واحترام حرية وعقائد الآخرين “كونوا أصدقاء الحقيقة قبل أن تكونوا أصدقاء العقيدة”.
إننا نكتب هذا ونوجهه لمن بيده الحل والعقد كدعوة صادقة وصرخة استغاثة في لحظات تأريخية كهذه وصل فيها التدخل الخارجي إلى أوسع النطاق تحت مبرر مساعدتنا في علاج أمراضنا المزمنة، ولتساعد هذه الدعوة للبحث عن حلول وتسويات سلمية تبعد شبح العنف والعدوان والتسلط، لأن العنف لا يأتي من فراغ وليس هو حالة مجانية في المجتمع الانساني، بل يأتي نتيجة لغياب التفاهم والعدالة الاجتماعية في أكثر الأحيان، إنها دعوة عاجلة أيضاً لعلها تصل، وما ربك عنها ببعيد.

* مستشار رئيس الجمهورية
نقلا عن صحيفة الخليج
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 03:58 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-7097.htm