بقلم /احمد الحبيشي -
على امتداد الأسابيع الماضية شهد المجتمع المدني السياسي جدلاً وسجالاً ساخنين حول دعوة تقدم بها عدد من رجال الدين الحزبيين وملالي الإسلام السياسي لتشكيل ما تسمى ((هيئة حماية الفضيلة ومحاربة المنكرات)) في اليمن الديمقراطي الموحد. اللافت للنظر أنّ الأستاذ نصر طه مصطفى نقيب الصحفيين اليمنيين كان أول من أطلق شرارة البدء في هذه المواجهة، عندما أعلن في ندوة أقامتها منظمة ((إرادة شعب)) في العاصمة صنعاء بمناسبة يوم الصحافة العالمي قبل شهرين، عن وجود توجه لتشكيل هذه الهيئة من قبل بعض رجال الدين المحسوبين على حركة المعارضة، داعياً كافة الصحفيين والكتاب والمثقفين وحملة الرأي والفكر لمواجهة هذا المشروع الذي وصفه نقيب الصحفيين بأنّه يندرج ضمن المخاطر التي تهدد الحريات المدنية في المجتمع، وفي مقدمتها حرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي والفكر. بوسعي القول إنّ حبراً كثيراً أُريق على مختلف جوانب ساحة الجدل والسجال على هوامش هذه القضية، فيما قيل كلام من العيار الثقيل على لسان رجال الدين الذين رفعوا سيوفاً حادة وإن كانت صدئة، في مواجهة عدد كبير من الصحفيين والمثقفين الذين رفعوا بالمقابل أقلامهم وأصواتهم تعبيراً عن رفضهم لمخاطر محاكم التفتيش الجديدة، التي يريد أشباه الأكليروس من ملالي الإسلام السياسي وشيوخ ((اللقاء المشترك)) في اليمن إعادة الروح إلى عظامها الرميمة في زمن آخر ومكان آخر. في هذا السياق اتصل بي كثير من الأصدقاء الذين أبدوا استغرابهم لعدم مشاركتي في هذا السجال .. وكنت أرد على كل المتصلين وآخرهم الأخت أمل الباشا والأخت توكل كرمان بأنني لا أقبل لنفسي أن أكون محايداً في معركة تتعلق بالدفاع عن العقل والحرية في مواجهة المشاريع التي تستهدف مصادرة وتغييب دور العقل النقدي، وممارسة الوصاية على الحرية، بيد أنني كنت طوال الفترة الماضية أتابع وأرصد بدقة، كل ما يُقال وينشر تمهيداً للمشاركة الفاعلة في النقاش الدائر حول هذه القضية الحيوية. والحال أنّ ثمّة كلاماً كثيراً قيل على لسان الداعين إلى تشكيل ما تسمى ((هيئة حماية الفضيلة ومحاربة المنكرات)) أو الرافضين لهذه الدعوة. ولئن كان بعض الكلام الذي صدر على لسان ملالي الإسلام السياسي وشيوخ ((اللقاء المشترك)) يثير الرعب والفزع والخوف ويستدعي التصدي الحازم، إلا أنّ بعض ما قيل على لسان ملالي الاسلام السياسي يتميَّز بالفكاهة والسذاجة التي تكشف اغتراب الفقه السياسي لرجال الدين الحزبيين في بلادنا عن الواقع والزمان والمكان، وتعكس جهلهم بالتاريخ والجغرافيا.. ولعل أطرف ما قيل في هذا الصدد ( أنّ السماء أمطرت بعد لقاء عدد من ملالي الإسلام السياسي برئيس الجمهورية ) حين عرضوا عليه مشروعهم الكهنوتي الذي أثار ولا يزال يثير جدلاً واسع النطاق في المجتمع المدني السياسي، علماً بأنّ هيئة الأرصاد الجوية تصدر يومياً نشرة عن حالة الطقس في اليمن، تتضمن توقعات دقيقة ومفصلة بحركة الرياح والسحب والأمطار في مختلف الأقاليم المُناخية سواء داخل اليمن أو في البلدان المجاورة. ويكفي القارئ الكريم أن يراجع نشرات هيئة الأرصاد الجوية خلال الفترة 5 أبريل حتى 5 مايو التي توقعت أحوال الطقس يوميا وعلى مدار الأسبوع، ليكتشف أنّ ملالي الإسلام السياسي يتابعون بدقة هذه النشرات الجوية، ثمّ يسعون بسذاجة كهنوتية لا يُحسدون عليها إلى تطويعها وتوظيفها من أجل الضحك على عقول وذقون غيرهم ممن يعتقد ملالي ( اللقاء المشترك ) بأنّهم سذج.. أو لا يزالون سذجاً، مثلما كان الحال عليه في العهد الإمامي الكهنوتي الطافح بالأمية والجهل والعزلة والتخلف !؟ اللافت للنظر أنّ الصحف التي يصدرها أو يمولها حزب ((الإصلاح)) انفردت بإعلان توجهات بعض ملالي الإسلام السياسي لإقامة ما تسمى ((هيئة حماية الفضيلة ومكافحة المنكرات))، وإفساح المجال أمامهم كي يعرضوا على الناس تفاصيل وآليات مشروعهم الاستبدادي الكهنوتي الجديد، فيما تخندقت صحف حزبية وأهلية في جبهة التصدي لأقوال وبذاءات بعض الداعين الى هذا المشروع من الملالي والمتاجرين بالدين والسياسة، والذين تجاوزوا حدود اللياقة والحصافة عند الرد على مخالفيهم ومعارضيهم، الأمر الذي جعلهم عرضة للسخرية والرثاء، خصوصاً وأنّ بعض الذين بادروا إلى عرض هذا المشروع والدفاع عنه ينشطون في السياسة والعمل الحزبي ويشتغلون في التجارة الطفيلية، ويعتمرون عمائم الإسلام السياسي، ولهم رصيد لا ينكر في ممارسة مختلف أساليب الاحتيال و النصب على أموال المودعين الذين ضحكت عليهم ونهبت جيوبهم شركات ((إسلاموية)) لتوظيف الأموال وتحقيق الربح الحلال، كما صدرت بحق هؤلاء المتاجرين بالدين والسياسة أحكام قضائية بعد إقدامهم على تزوير وثائق إدعاء بملكية أراضي المنطقة الحرة في محافظة عدن، الأمر الذي يضع أكثر من علامة استفهام حول الهدف من وراء قيامهم بارتداء عمامة الفقيه، وإدعاء الانتساب الى فئة ((الفقهاء)) والاختباء خلف واجهة ((حماية الفضيلة ومحاربة المنكرات)).!!! من حق القارئ الكريم أن يتوقع مني إسهاماً ملموساً في مناقشة كل الآراء التي وردت في السجال الدائر حول الدعوة إلى تشكيل ((هيئة لحماية الفضيلة وردع المنكرات)) خصوصاً وإنني أعدت في السطور السابقة أسباب تأخري في الإدلاء بدلوي في هذا السجال إلى حرصي على المتابعة الدقيقة لكل ما نُشر وقيل حول هذه القضية. ومن حقي على القارئ الكريم أيضاً تأجيل هذا التناول إلى موضع لاحقٍ في هذا المقال، حيث سأناقش آراء عدد من الزملاء الذين انتقدوا هذه الدعوة وتعرضوا للشتم والتفسيق بل والتكفير بأقلام وألسنة المتاجرين بحماية ((الفضيلة)) وردع ((المنكرات)).. ومن بين هؤلاء الزملاء الكاتب والباحث الإسلامي عصام القيسي الذي تعرَّض لحملةٍ عدوانية خطيرة بسبب بعض آرائه التي عبَّر عنها في حوار نشرته صحيفة ((إيلاف)) (العددان 34 و35 أبريل 2008م). قد تبدو محنة الكاتب عصام القيسي خارج السجال الدائر حول الدعوة إلى تشكيل هيئة لحماية ((الفضيلة)) ومحاربة ((المنكرات))، لكن شكل ومضمون الحملة المسعورة التي تعرض لها هذا الكاتب الشجاع تفضح الطابع الكهنوتي لوظائف هذه الهيئة التي يدعو إليها ملالي الإسلام السياسي في اليمن، وما يترتب عليها من مخاطر تهدد مسار الوحدة والديمقراطية في بلادنا، وتنذر بمحاربة العقل، ومصادرة الحريات وإباحة سفك الدماء واضطهاد الكُتاب والمفكرين وفرض الوصاية على عقول وضمائر وسلوك الناس في الجامعات والمدارس والصحف ومواقع العمل والإنتاج والمتاجر والمصانع والمزارع والشوارع والمنازل والمتنفسات الطبيعية، على نحوٍ ما رأيناه في حدِّ السيوف والحراب التي انهالت على المفترى عليه عصام القيسي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الذين أطلقوا في وجهه سيوف وحراب التكفير والإلغاء، هم أنفسهم الذين شحذوا تلك السيوف والحراب في وجه بقية الزملاء من الكُتَّاب والصحفيين الذين عارضوا بجسارة وشجاعة مشروع تشكيل ((هيئة حماية الفضيلة ومحاربة المنكرات)). باستثناء الباحث والكاتب عصام القيسي الذي سأتناول آراءه والحملة المسعورة التي تعرض لها في جزء لاحقٍ من هذا المقال، أزعم بأنّ معظم الكتابات التي عارضت الدعوة إلى تشكيل هيئة كهنوتية لحماية الفضيلة وردع المنكرات تميزت بالانفعال المشوب بالغضب والخوف والقلق، ما جعل هذه الكتابات محصورة فوق سطح هذا المشروع دون النفاذ إلى أعماقه الموبوءة بالأحراش والأشواك والسموم . بيد أنّ ذلك لا ينتقص من سبق هذه الكتابات وكتابها الأبطال في التصدي المبكرلهذا المشروع المدمر، ولا ينفي حرص بعضها وبعضهم على التوغل قليلاً في أعماقه، وهو ما سنوضحه في جزءٍ لاحقٍ من هذا المقال. وحتى لا يخطئ البعض في فهم الأبعاد الانتقادية لهذه السطور، أود التأكيد على أنّ كاتبها يقف في خندق واحد إلى جانب كل الزملاء الذين عارضوا من خلال تلك الكتابات دعوة الكهنة الجدد الى ((تشكيل هيئة لحماية الفضيلة ومحاربة المنكرات)) بصرف النظر عن شكل ومضمون كتاباتهم التي يعود إليها الفضل في سبق التصدي لهذا المشروع الكهنوتي الظلامي.. ولذلك فإنني اعتبر مساهمتي المتواضعة في هذا السجال امتداداً واستكمالاً لمساهمات ومبادرات جميع الزملاء الذين سبقوني في إعلاء بيارق الدفاع عن العقل والحرية. ومما له دلالة أن تبدأ صحيفة ((الناس)) التي يمولها حزب ((الإصلاح)) أولى حملات الترويج لهذا المشروع الظلامي، حيث حرصت تلك الصحيفة على التأكيد بأنّه مقدم من مركز الإيمان التابع لجامعة الإيمان، وهو المركز الذي اشتغل طوال شهري فبراير ومارس من العام الجاري على إقامة ندوات تندد بالغناء والموسيقى وتهاجم مشاريع تعديل نصوص القوانين المهينة لكرامة المرأة، وخصوصاً تلك النصوص التي تجيز تزويج القاصرات، وتزعم بتحريم المساواة بين دية المرأة القتيلة ودية الرجل القتيل، استنادا الى ذرائع بائسة ومضحكة سبق لنا أن تناولناها بالنقد والتحليل في مقالات سابقة. في صحيفة ((الناس)) قرأنا على لسان أحد الداعين لتشكيل هيئة حماية ((الفضيلة)) شرحاً لأسباب تلك الدعوة أوجزه باتساع دائرة الفساد الأخلاقي في المجتمع، حيث حرص ذلك (الداعية) على تحديد مظاهر هذا الفساد بانتشار الحفلات الغنائية والمفاسد الأخلاقية في الشوارع والشواطئ والمدارس والجامعات والملاعب وأماكن العمل ووسائل الإعلام، على نحوٍ يوحي بأنّ نمط حياتنا يشبه نمط حياة سكان هونولولو وتايلاند وجزر هاواي، وكأننا لا نعيش في اليمن الذي يتميز بأنّه بلد محافظ ومتدين وينتشر فيه النقاب والحجاب ويفتقر إلى المسرح ودور السينما!! لا يكتفي الداعي إلى حماية ((الفضيلة)) وردع المنكرات عبر صحيفة ((الناس)) بالحديث عن المفاسد الأخلاقية التي تسود ((جميع جوانب حياة المجتمع اليمني)) بحسب زعمه كمبرر لتشكيل هذه الهيئة، لكنه يفصح عن إطار أكبر وأوسع لوظائف هذه الهيئة التي شدد على أن تكون محصورة في عددٍ ممن أسماهم (العلماء) بالتنسيق مع (ولي الأمر) فقط.. ولعله بذلك يقصد رجال الدين من الفقهاء وخطباء المساجد لا غير.. ولا يقصد بطبيعة الحال علماء الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة المدنية والمعمارية والمياه والزراعة والنفط والكهرباء والمصارف والأسواق والإدارة الاقتصادية وغيرها من العلوم التي نحتاجها لمواصلة بناء الدولة المدنية الحديثة والمجتمع الحديث على أسس علمية وحضارية. نعم .. لا يكتفي هذا الداعية بمحاربة الفساد الأخلاقي الذي يعم كل حياتنا بحسب زعمه من خلال هذه الهيئة التي سيتولاها نفر من رجال الدين الكهنوت بالتنسيق مع (ولي الأمر) فقط، حيث أشار عبر صحيفة (الناس) في مايو الماضي )، إلى أنّ مسودة مشروع هذه الهيئة تتضمن آليات للضبط والردع ليس مناسباً الخوض فيها حالياً بحسب قوله، مشيراً إلى أنّ دور هذه الهيئة لن يقتصر على ضبط المفاسد والمخالفات الأخلاقية، بل أنّها ستشمل كافة الجوانب الحياتية والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية))..!!! بالتزامن مع تصريحات داعية حماية ((الفضيلة)) عبر صحيفة ((الناس))، ظهر علنيا مدرس ((أصول الفقه))، في جامعة الإيمان متحدثاً عبر صحيفة ((إيلاف)) عن مشروع ((حماية الفضيلة ومحاربة المنكرات))، في سياق محاربة ما أسماها ((مثالب نظام الحكم القائم وفي مقدمتها الفساد الذي ينخر ((الدولة)) بحسب تعبيره. ومما له دلالة، حرص مدرس ((الأصول)) في جامعة الإيمان على الربط بين أهمية إنشاء هذه الهيئة وأهمية ((اللقاء المشترك)) بين بعض أحزاب المعارضة حيث وصف ذلك اللقاء السياسي الحزبي المعارض بأنّه ((سنة ربانية)) .. بمعنى أنّ تكتل ( اللقاء المشترك ) بين عدد من أحزاب المعارضة قد تمّ بتكليف إلهي، كما هو حال هذه الهيئة التي سيتم إنشاؤها بتكليف إلهي من رب السماء وقرار جمهوري من ولي الأمر !!! على غرار داعية ((الفضيلة)) في صحيفة ((الناس)) يتحدث مدرس ((علم الأصول)) في جامعة الايمان عبر صحيفة ((إيلاف)) عن إطار واسع لوظائف هذه الهيئة التي لن تكتفي مهامها ووظائفها فقط بوضع حدٍ لفساد الأخلاق الذي ينخر الدولة والمجتمع، بل أنّها ستعمل على وضع حدٍ لكافة ((المظالم.. السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد وتنتشر في شوارعنا ومنازلنا وداخل مرافق الدولة)) بحسب تعبيره. وكعادة رجال الدين الكهنوتيين فقد كان الرجل واضحاً وصادقاً، ولم يلجأ إلى المناورات والحيل التي يجيد استخدامها السياسيون المختبئون خلف عباءة الدين . فقد أماط مدرس ( الأصول ) في جامعة الايمان النقاب واللثام والقناع عن فصول خطيرة لهذا المشروع الذي زعم أنّه ينبثق عن تكليف من الله ((بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))، مشيراً إلى بعض تفاصيل و آليات تشكيل هذه الهيئة التي سيتولى إدارتها وتوجيهها عدد ممن أسماهم ((العلماء)) ومعظمهم رجال دين حزبيون و أعضاء قياديون في الهيئة العليا لحزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يقود ويوجه ((اللقاء المشترك)) بما هو سنة ربانية !! بموجب الخطة التي أفصح عنها مدرس ((أصول الفقه)) في جامعة الإيمان سيقوم أولئك ((العلماء)) يقصد رجال الدين بالدعوة لمؤتمر ينعقد في مدينة عدن برئاسة أحد الفقهاء حيث اتضح لنا من خلال اسمه الصريح في المقابلة الصحفية التي أجرتها معه صحيفة ( إيلاف)،أنّه أحد أعضاء الهيئة العليا لحزب ((الإصلاح)) وبحضور رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وكل من له عَلاقة بالدولة والمجتمع ليعطوا من على أرض مدينة عدن تفويضاً لأولئك ((الفقهاء )) لحل ومعالجة المظالم والقضايا الكبرى، ثم يخرجوا بتوصيات ترتبط باسم مدينة عدن وأهمها إنشاء محكمة تفتيش كهنوتية تضم خمسة من رجال الدين الحزبيين، ذكرمدرس علم ( الأصول ) اسم أحدهم وهو بالمناسبة أيضا عضو في الهيئة العليا لحزب ((الإصلاح))، على أن يقوم هذا ((الفقيه)) الحزبي باختيار أربعة ممن يراهم مناسبين إلى جانبه بدون أي تدخل أو ضغوط من الدولة أو غيرها، ثم يصدر بعد ذلك قرار جمهوري بتشكيل هذه المحكمة التي لن تكون تابعة للسلطة القضائية ووزارة العدل، ولن تخضع لقوانين الدولة ودستورها، بل لأوامر الله ونواهيه التي فوّض الله بها أولئك ((العلماء)) الخمسة الذين حدد مدرس ((الأصول)) اسم أحدهم، ثم ترك له -وحده دون شريك له- حق اختيار الأربعة الباقين بعد ان يستخير الله بشأنهم (!!؟؟) لا يتوقف مدرس ((الأصول)) في جامعة الإيمان عند هذا الحد من الهذيان، بل أنّه يواصل الحديث مزهواً بنفسه وبمشروعه الكهنوتي بالقول إنّ تلك الهيئة (المحكمة) ستبدأ عملها فور صدور القرار الجمهوري بتشكيلها بدون أي خضوع للدولة أو هيئاتها الدستورية المنتخبة أو قوانينها.. لأنّ وظائف تلك المحكمة الكهنوتية تختلف عن وظائف القضاء والمحاكم الموجودة، حيث ستشمل القضايا الكبرى التي تتعلق بالردة والفتن والفساد المالي والصراعات السياسية بدءاً من رئاسة الوزراء وما دونها، كما سيكون من اختصاص هذه المحكمة عزل ومحاسبة ومعاقبة رئيس الوزراء والوزراء وقادة الهيئات والمؤسسات وكوادر وموظفي الدولة بتهم الفساد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي والمظالم. يقينا أن مدرس ((الأصول)) في جامعة الإيمان حاول بسذاجة مكشوفة التهرب عن الإجابة على سؤال صريح من محرر صحيفة ((إيلاف)) التي أجرت معه اللقاء في عددها رقم (37) الصادر يوم 6 مايو 2008م حول اسباب استبعاد رئيس الجمهورية عن نطاق اختصاص تلك المحكمة الكهنوتية ، إلا أنّ مدرس ( الأصول ) في جامعة الإيمان لم يستبعد محاسبة رئيس الجمهورية في وقتٍ لاحقٍ بعد أن يكون الكرادلة الجدد قد ضمنوا شرعية محكمتهم الكهنوتية بقرار جمهوري ممهور بختم رئاسة الجمهورية .. الأمر الذي يعيد الى الأذهان ما فعلته أول محكمة تفتيش في أوروبا عندما أصر اكليروس روما على تأسيس تلك المحكمة بقرار من الإمبراطور فردينالد هنري، ثمّ وضعوا ضمن وظائفها وصلاحياتها محاسبة كل مسؤولي الدولة والجيش والجامعات ما دون الإمبراطور.. لكن رقبة الإمبراطورالايطالي فرديناند هنري لم تسلم في وقت لاحقٍ من مقاصل محكمة التفتيش التي تأسست في بادئ الأمر بقرار إمبراطوري صدر ممهوراً بتوقيعه وختمه الأمبراطوري قبل أن تغرق أوروبا بدماء علمائها ومفكريها وأحرارها .. على نحوٍ ما سنأتي إليه في العدد القادم عندما سنعرض آليات تشكيل محاكم التفتيش التي دعا إليها وعمل من أجلها رجال الأكليروس المسيحي في أوروبا، تحت شعار حماية الفضيلة ومكافحة الهرطقة والمفاسد والبدع والمنكرات.