د.عبدالرحمن محمد الشامي - ليتَ المعارضة في بلادنا كانت تجيد شيئا بقدر إجادتها لفن صناعة الدعاية الإعلامية، ومسرحة الحياة السياسية!!.. وليتها قدمت لنا منفعة نلمسها في حياتنا، فنذكرها لها، ونتذكرها بها، غير افتعال الأزمات المتتالية، أو التشجيع عليها، والوقوف إلى جانبها، وتصعيدها على نحو يحسدها عليه فطاحلة كتاب الدراما.
المعارضة في بلادي تتمتع بقدرة فائقة على صناعة الخطاب الإعلامي، ومسرحة الأحداث السياسية، فهي تخلقها في الصباح، وتفجرها في الظهيرة، وتدفع بها إلى الذروة في المساء، وإذا كان من شيء يميزها في هذا المجال، فهو أن لكل الأحداث الدرامية صعودا وهبوطا، ولكل معضلة درامية حل يعقبها، يتنفس معه النظارة الصُعداء، إلا دراما المعارضة السياسية، فإنها لا تعرف غير الصعود، ولا تجيد غير تعقيد الأحداث، التي لا سبيل إلى حلها، لأنها لا تريد الحل أصلا، ومن ثم فهي لا تسعى إليه.
ليست صناعة الدراما السياسية فقط، هي التي تجيدها المعارضة في بلادنا، بل تجمع بينها وبين إجادة فن الفٌرْجة، فهي بمصابنا تتشفى، وعلى نوازلنا تتفرج، ولحراكنا السياسي ما بين مشكك، أو مثبط، يتضح هذا من موقفها إزاء عملية انتخاب المحافظين، وموقفها من غلاء الأسعار، تلك الموجة التي ضربت العالم، حتى كادت تودي بكثير من البلدان، ولا زالت مهيأة للحدوث مرات أخرى، لا مرة واحدة.. فماذا فعلت معارضتنا الشائخة لا الفتية؟.. وقفت من هذه الأزمة موقف المتفرج المتشفي، وجلست تٌنَظِّر إلى ما لا نهاية، فكل ما يحدث من وجهة نظرها، هو «جراء السياسات الخاطئة»، فهذه هي التهمة المعلبة، التي لا تألو أن ترددها على مسامعنا ليل نهار.. صحيح أن السياسات قد تفشل في بعض الأحيان لظروف معينة، ولأسباب قد تكون خارج نطاق تحكم المخططين ورسامي السياسات، أو لظروف مستجدة وطارئة لم يكن لها وجود في الحسبان في مرحلة صياغة السياسات، لكن اختزال كل شيء في هذه العبارة هو من الاتساع إلى درجة؛ يجعلها كفيلة بأن تتسع لكل ما يحدث في عالم اليوم، بدءاً بالدولة العظمى، والقطب الأوحد، وانتهاء بأصغر دولة، لا يسمع بها الكثيرون.. وبحجم اتساع السبب تأتي سعة الحل، الذي تدعي المعارضة امتلاكه، ولا ينقصها سوى الوصول إلى سدة الحكم، والجلوس على كرسيه، لتحل بين عشية وضحاها كل مشاكلنا وقضايانا مهما كانت مستعصية، حتى ليخال للمرء بأن صحراء «الربع الخالي» ستصبح جنانا خضراء، إذا ما وصلت هي إلى الحكم.
من حق المعارضة أن تمارس دورها السياسي، وأن تعبر عن رأيها، ولكن شريطة أن يتم هذا في ضوء اشتراطات، يأتي في مقدمتها التخلص من وهم القوة، والتصرف بأنها حتى في ظل ائتلافها الحالي، تعبر عن الأغلبية، بل عن الشعب بأكمله كما تدعي هي ذلك، وثانيا: أن يتم هذا تحت مظلة القضايا الكبرى التي لا تقبل الحوار، ولا الخلاف بشأنها، ولا أنصاف الحلول، مغلبة الحوار في ما يتعلق بما عدا ذلك من القضايا، فبالحوار يمكن أن يحل كل شيء، وبهجره يمكن أن ينقض كل شيء، ويهدم كل شيء، وهو ما يبدو اليوم من محاولات، تصل حد التربص بالتجربة الديمقراطية التي غدت اليوم ملكا لكل اليمنيين، شأنها شأن وحدتهم التي تحققت منذ 18 عاما حتى اليوم، وأتت معها بالتعددية السياسية، وبكل الخير الذي تعيشه البلاد، رغم كثرة المصاعب، وتعدد التحديات التي تواجهها دولة الوحدة، وعلى نحو خاص إبان السنوات الأخيرة، والتي تسهم مواقف المعارضة إزاءها في تأجيج نيرانها، إما من خلال التشجيع المباشر لها، أو بالصمت المريب عنها، وأحيانا بإعلان المواقف العائمة التي لا تزيد المرتاب إلا ريبة.
أسهل شيء يمكن لأي واحد منا عمله، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، ومن ذلك المعارضة، هو أن نفصل التهم من كل صنف ولون، وأن نلقي كل شيء على الغير، وأن نحمل غيرنا المسئولية عن ما يحدث، في حين أن الواقع غير ذلك، فنحن نسهم في عرقلة الإنجاز بأكثر من وسيلة، من خلال عدم الإسهام المباشر تارة، واصطناع المشكلات والعراقيل تارة أخرى، أما الاكتفاء بمواقف «الفرجة» فهي مسألة غاية في السلبية.
نحن اليمانيين، أفرادا وأحزابا وقوى سياسية واجتماعية أخرى مدعوون جميعا اليوم إلى الاصطفاف الموحد حول وحدتنا اليمنية، ومؤازرة تجربتنا الديمقراطية، فهذه أولى الأوليات التي لا تستحمل المواقف المتخاذلة، ولا أنصاف الحلول، ليس فقط للبدائل الوخيمة التي يمكن –لا قدر الله- أن تترتب على أي موقف متخاذل في هذه القضايا، ولكن لأننا حينها نكون كتلك التي «نكثت غزلها من بعد قوة أنكاثا» فإذا ما اتفقنا على هذه الثوابت، انتقلنا بعدها إلى المربع التالي من خلال الاتفاق على تغليب مبدأ الحوار، على كل ما عداه، وهجر المواقف المتشنجة، والتصريحات النارية التي تحرق وتغرق، ولا تثمر أو تورق فالجلوس إلى طاولة المفاوضات هو الخيار الطوعي أو القسري، الذي لا بد أن ينتهي إليه الفرقاء، مهما طالت رحلة الخصام بهم، ومهما علت أصوت الخلاف بينهم، هذا ما تؤكده الأحداث القريبة والبعيدة، الداخلية والخارجية، وما أزمة «لبنان» التي كادت أن تعصف بهذا البلد بأكمله عنا ببعيد، فلماذا لا نختصر على أنفسنا المسافات، ونوفر على بلادنا المعاناة، فنحتكم إلى الحوار، ونتخذه أداة لحل خلافاتنا السياسية مهما كانت، وأن نمارسه وفق أبجدياته الأولى، من حيث استعداد الطرفين للأخذ والعطاء، فمن لا يعطي لا يأخذ، ومن ليس لديه الاستعداد لأي من الاثنين فلا مكان له على طاولة المفاوضات، وليجلس في أي مكان آخر، بدلا من إضاعة وقته، وأوقات الآخرين.
إن اصطناع الأزمات من أي نوع كان، ليس لهوا يتلهى به الآخرون، وإدخال البلاد في نفق مستمر من الأزمات السياسية، ليس فيه مصلحة، لأحد بل إن له عواقب وخيمة على الجميع، عاجلة وآجلة، فهذا التوجه يعيقنا عن العمل النافع، ويشغلنا عن ما يتوجب الانشغال به، أما تراكم إحداث الأزمات وحدوثها، فهو يشكل ضغطا نفسيا على الناس، يمكن أن يدفعهم إلى رفض كل شيء، قد يصل إلى نبذ الديمقراطية التي أفرزت لنا هذا المناخ المتأزم، والأنفس المشحونة بالكراهية، ونبذ الآخر، عكس ما هو مرجو منها، من التعايش السلمي، والاعتراف بالآخر.
إن الاستفادة من دروس التاريخ، وأحداثه السابقة ليست من سقط المتاع.. وإفرازات أزماتنا السابقة، التي لا تزال ماثلة بيننا اليوم حريَّ بأن تجعلنا نهجر هذا التوجه الفكري في التعاطي مع شئون حياتنا الجادة، وقضاياه المصيرية على نحو عقلاني ومسئول، يدرك متطلبات المرحلة، ومقتضى الأولويات، ومعنى «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».
|