الخميس, 26-يونيو-2008
الميثاق نت -   د.عبدالرحمن محمد الشامي -
هل هو من سوء الطالع، أم تراه بما كسبت أيدينا؟ أننا معشر اليمانيين دفعنا- ولا نزال-، ثمنا باهظا للعزلة التاريخية التي فرضها علينا حكم الأئمة الكهنوتي، والشيء المؤسف، هو أن نستمر في دفع هذا الثمن، منذ قيام الثورة، وكأنه استحقاق مكتوب، يجب علينا الوفاء به، إذ لم يكد ينقضي عقد كامل من دون أن تمر البلاد بأزمة،
أو تخوض حربا، أو تعيش في حالة منها، وذلك بفعل أيدي بعضنا، لا بأيدي الآخرين، لكننا جميعا ندفع ثمن ذلك غاليا، ويأتي هذا في النهاية على حساب تنمية البلاد وتعميرها، بشكل عام.
ففي حقبة الستينيات، وبعد قيام الثورة، عاشت صنعاء فترة عصيبة إبان حصار السبعين يوما، وفي السبعينيات شهدت صراعات وصلت في بعض الأحيان حد المناوشات العسكرية والاقتتال بين اليمنيين الإخوة، أثناء فترة التشطير البغيضة، وفي الثمانينيات ابتليت البلاد بحرب الجبهة القومية، ثم حرب الانفصال في التسعينيات، أما في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فقد برزت على السطح أحداث الفتنة المشؤومة، والتي وصلت حد التمرد، بالخروج العلني والمسلح على الدولة والنظام والقانون.يمتلئ المشهد السياسي في حياتنا اليوم بعدد من مشاهد الدراما الهَزْلية، ويحفل بالكثير من الشواهد علينا، وهو ما يدعونا إلى إحياء فضيلة دينية منسية، وهي محاسبة الذات، كما كان يفعل ذلك بعض أفراد السلف الصالح، قبل الخلود إلى النوم، وعلى نفس المنوال فنحن مطالبون اليوم بالوقوف مليا أمام النفس ما بين آونة وأخرى، لمراجعتها فيما يتعلق بعلاقتنا مع وطننا، ومع بعضنا البعض، من الإخوة في الدين والنسب، والتعايش الواحد، والمصير المشترك، وإذا ما تحلينا أكثر بشيء من الشجاعة الأدبية، فإننا في الواقع في حاجة إلى المساءلة، ومحاكمة الذات بالذات، لا بواسطة أحد، فإذا كان بوسع المرء أن يخدع كل الناس، فليس بوسعه أن يخدع نفسه –كما يقال-، ومن ثم فلو أن الفتنة التي تشهدها بلادنا منذ فترة ليست بالقصيرة، حدثت في بلد آخر، لوقف الجميع ضدها، ولما وجدت فيهم من يحتفي بها ولا بأصحابها، كما يحدث من البعض عندنا، حداً وصل الانحياز المعلن، وغير المعلن إلى صفهم، وترديد الشائعات والأخبار التي تؤدي في أقل الأحول إلى نوع من البلبلة، وتضليل بعض أفراد الرأي العام، هكذا فعل المواطنون اللبنانيون –مثلا- مؤخرا، حين تعرض وطنهم لصراع مذهبي وطائفي، فقالوا في نهاية المطاف في صوت واحد للفرقاء المتخاصمين، ورفعوه مكتوبا في اللوحات علنا، وعلى مرأى ومسمع من العالم: إذا لم تتفقوا فلا تعودوا. فما بال بعضنا اليوم؛ يعتسف الحقيقة، ويتجنى على الواقع؟
إذا كان من حقنا جميعاً أن نحب من نشاء، وأن نكره من نشاء، من الحكومة أو المعارضة، أو من عامة الناس، فليس لهذا الحق مكان، إذا ما تعلق الأمر بالوطن الذي لا خيار لنا غير حبه، والولاء له، والعمل من أجل رفعته وأمنه واستقراره، على الأقل بمنطق المصلحة التي تقول بأن لا خير لنا في غيره، ولا مكان لنا في سواه، بهذا يأمرنا ديننا الحنيف، وكذلك كانت مشاعر نبينا إزاء مسقط رأسه، ووطنه الأول؛ "مكة" المكرمة، حين أكد على هذا الحب بقسم مغلظ، ولم يكن مطلوبا منه القسم على ذلك، فهو الصادق الأمين، وإنما كان يأمر أتباعه بحب أوطانهم، لأن الحب يعني البناء، والكره إنما يعني الضرر والإضرار والهدم، أو ممارسة شيء منه، مهما كانت الدوافع وراء ذلك، ففي ظاهرها الإقناع، وفي باطنها غواية النفس وضلالها، وإغواء الآخرين وإضلالهم، ومن لم يحب هذا الوطن، أو لا يريد أن يساهم في بنائه، فأقل واجب عليه هو الكف عن إيذائه، والامتناع عن أعمال الهدم، أو شيء منها.
تنقل إلينا الصورة التليفزيونية مناظر خلابة، لمساحات شاسعة بمد البصر، من الحقول المعلقة في الجبال، المكسوة بالخضرة، المزهوة بالجمال، بعد أن تم تطهيرها من عناصر الفتنة والتمرد، الذين وقعوا ضحية فكر ديني متعصب، وتعبئة خاطئة، فيحار المرء ساعتها، في سر التشكيلات المتناقضة، ما بين جمال المكان، وعنف بعض ساكنيه، والذي وصل حد إشهار السلاح في وجه الدولة، وتتوالى بعد ذلك الرسائل القصيرة التي تنقل إلينا أخبار القضاء على الفتنة في بعض مديريات محافظة صعدة، فنستقبلها بمشاعر متناقضة، من الحزن والفرح، والألم والأمل، فأما الفرحة والأمل فلقرب زوال الغمة إلى غير رجعة –بإذن الله تعالى- لا على بلادنا، ولا علينا، أو أي فرد من أبناء هذا الوطن وأجياله القادمة، وأما الحزن والألم، فهو أننا وبلادنا لسنا في حاجة إلى شيء بقدر حاجتنا إلى اتقاء مثل هذه المواجهات، وأعمال الفتنة التي لا شك تخلف ضرراً يلحق بالعباد، وتأتي على حساب التنمية في البلاد. أما ما يضاعف من صعوبة مواجهة مثل هذه الأعمال في بلادنا، ويجعلها تختلف عن كثير مما قد يحدث من أعمال التمرد في بلاد أخرى، فهي طبيعة البلاد الجبلية الوعرة، وتضاريسها المعقدة، فالدولة في مواجهة هذه الأعمال، لا تحارب الخارجين على النظام والقانون فحسب، ولكنها تحارب أيضا جبالا شاهقة، وتسير في دروب وعرة، وطرق خطرة، وهذا هو ما يصعب إنجاز هذه المهمة في أيام معدودة، ويجعلها تمتد لأشهر طويلة، غير أنه لم يكن هنا بد من تحمل الدولة لهذه المسؤولية، لاستئصال الفتنة من مرقدها، ووأدها في موطنها، بعد أن فرض عليها ذلك، يشهد عليه الوساطة القطرية، التي ذهبت وغدت أكثر من مرة، ولجان الوساطة الوطنية بمشاركة عدد من فئات المجتمع، وقواه السياسية المختلفة، التي كانت تذهب بآمال معقودة، ولكنها تعود بخيبة مفقودة، بعد أن تصلبت الرؤوس كالجبال، وتحجرت القلوب على التصرف بمنطق العقل، والأخذ بحكمة القرار.
هناك مفاصل حقيقية في حياتنا اليوم، سواء منها ما يتصل بفهمنا لديننا، أو ما يتعلق بعلاقتنا بوطننا، وببعضنا البعض، تستدعي التأمل الحقيقي فيها، والمراجعة الجادة لها، فعبث تصبح الحياة، حين نكرر أخطاء الماضي مرة تلو الأخرى، وظلم للدين الذي باسمه، يحاول البعض تفريقنا، وللمذهبية التي بحجتها يسعون إلى تمزيقنا، فالدين ما جاء إلا ليوحدنا، والمذهبية ما أتت إلا لتجمع بعضنا إلى بعض، والدين أوسع من هذا القصور في الفهم، وأعظم من أن نقحمه في مثل هذه الخصومات، والمذهبية أسمى من نزعات التعصب والطائفية، التي نهى عنها نبينا الكريم، لأن لا شيء أضر بأمته بمقدار ضررها عليهم.
فعودة إلى رحاب هذا الدين العظيم، وإلى سعة المذهبية المتسامحة، لنوطن أنفسنا على ذلك، ولنرب الأجيال عليه، فبهذا نتعايش اليوم، وتتعايش الأجيال غدا، في وطن نستكمل بناءه معهم جنبا إلى جنب، وطن خال من كل العقد والكراهية والضغائن، وطن يوحد، ولا يفرق، ومذهبية تجمع، ولا تجزئ. هكذا كان الطريق في البداية، وسيبقى كذلك حتى النهاية، ذكرى لمن ألقى السمع وهو شهيد.

تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 03:14 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-7316.htm