د/ سيف العسلي* -
على الرغم من أن التجربة تلو التجربة قد أثبتت بما لا يدع أي مجال لأي شك بأن الفتنة أي فتنة لا تأتي بخير لا لمشعليها ولا لمن تعاطف معهم ولا لمن سكت عنهم، إلا أن البعض (اللقاء المشترك، وآخرين) لم يعتبروا من ذلك فتعاملوا مع دعاة الفتنة في صعدة بالمخالفة لهذه الآية الكريمة، ولم يردعهم عن ذلك تحقق ما حذر الله منه في هذه الآية، فما تسببه هذه الفتنة من متاعب وآلام لجميع اليمنيين واضح وجلي، والأكثر أهمية أن آثارها الضارة قد امتدت لتصيب حتى من وقف منها موقفاً متخاذلاً مما يدل على أنه لا يستطيع أحد أن يحصن نفسه منها.
فلم يشفع لأحد كونه يشارك دعاتها في النسب أو المذهب أو المنطقة، فما من أحد من اليمنيين إلا وقد أصيب بأضرارها بشكل مباشر أو غير مباشر، فحتى أولئك الذين حاولوا الاستفادة منها لابتزاز الدولة لم ينجحوا في ذلك وحتى من حاولوا الاستفادة منها لاضعاف منافسيهم السياسيين لم ينجحوا أيضاً.
وإذا كان الأمر على هذا النحو فإن العودة إلى الحق فضيلة، وعملا بهذه الآية فإنه ينبغي على هؤلاء عدم التردد في دحض هذه الفتنة والتوقف عن نشر شبهاتها وكذلك العمل على ردع دعاتها مهما كان نسبهم أو مذهبهم أو منطقتهم، بل إن من اتقاء الفتنة توقف هؤلاء عن إظهار شعورهم بالارتياح لاشتداد أوارها أو توسع نطاقها والتوقف عن إظهار الشعور بالضيق والحرج عند نجاح جهود إطفائها، إن على هؤلاء أن يدركوا أن السعي إلى عرقلة أي جهود لإطفاء نارها هو مشاركة في الفتنة.
ومما يثير الاستغراب أن بعض القوى السياسية التي تدعي أن مرجعيتها إسلامية قد تعاملت مع فتنة الحوثي بما يخالف هذه الآية الكريمة، بالإضافة إلى ذلك فإنها تعتقد في قرارة نفسها أن دعاة الفتنة على باطل، ولا شك أن محاباة أصحاب الباطل هو باطل أيضاً، فتجاهلها للأضرار الكبيرة المترتبة عليها وسكوتها على تنفيذ الشبهات التي يروج لها دعاتها مخالف لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن عدم قيام هؤلاء بمناقشة مفهوم الفتنة والشبه التي تعتمد عليها قد أدى إلى حدوث بعض الالتباس لدى قواعدها وأنصارها، ولذلك كان من الضروري مناقشة الموضوع إبراء للذمة.
الفتنة هي الابتلاء والاختبار وهي الاضطراب وبلبلة الأفكار وهي العذاب وهي الضلال وهي الإعجاب بالشيء الناشئ عن الوسواس، وتنشأ الفتنة بين الناس عندما يقع بينهم اختلاف غير منضبط في الرأي مما يجعلهم يتطاحنون ويتقاتلون، ويترتب على ذلك حدوث انشقاقات في صفوف الأمة تؤدي إلى الاضطراب والتهور، ولا شك أن أوضاعاً كهذه تعمل على نشر وممارسة الظلم بدون تميز أو حدود، ولذلك فإن الواجب الديني يمنع السكوت ويحتم إظهار الحق.
إن اتقاء الفتنة يتطلب إدارة الاختلافات بين أفراد الأمة بطريقة لا تسمح لقيام الفتن، ولتحقيق ذلك فإنه ينبغي تجنب الاختلاف الناشئ من الإعجاب المفرط بالنفس والرأي، فإن ذلك لا محالة يؤدي إلى الفتنة، ذلك أن السماح بهذا النوع من الاختلاف قد يقود البعض إلى الوقوع في حالة من الجنون ولا شك أن التعمد في إشعال الفتنة هو أعظم درجات الجنون لأنها لا تفيد هؤلاء ولا غيرهم، إن السعي إلى الفتن هو تقليد للشيطان واتقائها مخالفة له، ولا شك أن الشيطان هو الفاتن الكبير لأنه يضل بعض العباد بدون مصلحة له في ذلك، ولذلك فإن الاستسلام للدوافع السياسية وبالتالي عدم التفرقة بين مجالات الخلاف المسموح بها والثوابت التي لا يجوز الاختلاف فيها يعني الوقوع في بعض مظاهر الفتن.
فالتفنن في ابتكار الخداع ومظاهر الغرور ليس ذكاء ولا دليلاً على صحتها، وكذلك الترويج لها وتشجيع الغوغاء على التصرف وفقاً لها وإعانتهم على ذلك ليس من اتقاء الفتنة فكل من يسعى إلى اضلال الناس عن الحق من البشر فهو فتان مثله مثل الشيطان، فتبريرات بعض القيادات الحزبية غير المنطقية لموقفهم من هذه الفتنة لدليل قوي على وقوع هذه القيادات في بعض جوانب الفتنة.
ونظراً للآثار المدمرة للفتن فقد حذر الله تعالى منها وفند منطقها غير المستقيم وأمر بقتال رؤوسها، وبالتالي فإن هذه التبريرات مخالفة لصريح القرآن إذ يقول الله تعالى في سورة آل عمران «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الألْبَابِ» «آل عمران 3» هذه التبريرات لا تستند على أي دليل محكم ولا حتى متشابه بل تستند إلى الانتهازية التي لا يقرها الإسلام ولا المنطق السليم.
في هذه الآية يبين الله تعالى صفة هامة من صفات دعاة الفتن ألا وهي الاستدلال بالمتشابهات وتأويلها بطريقة تتناقص مع الآيات المحكمات، وقد نتج عن ذلك ثقافة تركز على الجزئيات وتتجاهل الكليات والأصول، وبدلاً عن تفسير المتشابه والغامض من خلال الرجوع إلى المحكم فإن ما يحدث عند دعاة الفتن هو العكس، وربما التقى تفكير هؤلاء القادة مع تفكير دعاة الفتنة فوقعوا جميعاً بنفس الخطأ سواء من حيث يدرون أو لا يدرون.
فمن يطلع على كتابات وأشرطة الصريع الحوثي سيلاحظ أن آراءه تخالف صريح القرآن وصحيح السنة المطهرة، كذلك فإن من يحلل كتابة المتوكل سيتأكد من ذلك وعلى الرغم من عدم حصول هذا الخطاب نتيجة لذلك على قبول من قبل غالبية الهاشميين الذين حاول دعاة الفتنة استمالتهم بطرق شتى فإنه لم يحرك ساكناً لدى بعض القوى السياسية.
وتتضح أهمية ذلك إذا ما قيمنا بعض شبه دعاة الفتنة فشبهة مظلوميتهم لا أساس لها من الصحة، وذلك فقد عجزوا أن يذكروا مظلمة واحدة محددة وموثقة، فلا يوجد في الواقع أي دليل على حدوث أي تميز ضدهم، وإذا كان الأمر على هذا النحو فإن التحدث عن هذه المظالم بدون تقديم أي دليل هو في الحقيقة مساهمة في الفتنة، بل على العكس من ذلك فإنهم هم دعاة الفتنة من يسعوا إلى ظلم الآخرين من خلال فرض احتكارهم للسلطة تحت مبررات عنصرية وسلالية.
ولا شك أن العدل هو عدم السماح لهم بظلم الآخرين، فعدم القيام بذلك لا شك يتناقض مع القرآن الكريم محكمه ومتشابهه ومع السنة الصحيحة ومع المنطق السليم، لقد ترتب على السماح باحتكار السلطة على سلالة معينة أن ظلم كل أفراد المجتمع بمن فيهم المنتمون لهذه السلالة من غير الأسرة الحاكمة، فمن أجل محافظتها على سيطرتها فإنها لا تتردد في القيام بممارسات اقصائية وظالمة ضد من يعارضها بغض النظر عن سلالاتهم وأصولهم، ولقد عانى اليمنيون من ذلك أشد المعاناة ولذلك فإنه لا يمكن خداعهم مرة ثانية.
إن المصالح المتوهمة للقادة أو الجماعة أو الحزب لا يمكن أن تبرر مخالفة الثوابت ولا التخلي عن المعايير والقواعد الشرعية، إن ذلك محاباة النفس وإعفاء لها من الالتزام بالشرع والتمسك بالثوابت والمنطق السليم، إذ يقول الله تعالى في سورة البقرة «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة 217).
فقد اعتقدت قريش أنها فوق المعايير والقيم وبالتالي فإن على الآخرين أن يلتزموا بما لا يجب عليها الالتزام به، ووفقاً لذلك فإنها لم تلتفت إلى ممارساتها التي تتناقض مع كل المعايير والضوابط وفي نفس الوقت فإنها تعيب على الآخرين عدم التزامهم بأبسط المعايير وان عن طريق الخطأ، لقد عابت على المسلمين قتالهم دفاعاً عن النفس في بداية أحد الأشهر الحرم، وعلى الرغم من حقيقة أن ما صدر عن المسلمين كان عن طريق الخطأ أي أنهم اعتقدوا أنهم لا زالوا في غير الشهر الحرام فإن قريشاً لم تقبل ذلك، ولذلك فإن القرآن قد لفت نظر قريش إلى هذه الحقيقة وإلى حقيقة أنها هي نفسها قد مارست أفعالاً أشد وأعظم مع سبق الإصرار والترصد، فقد مارست العنف والقتل ضد المسلمين في المسجد الحرام مع أنها تعتبر حراما آمناً لا يجوز فيه ممارسة العنف ضد أحد ولا حتى إخافة أي شخص على الاطلاق، وكذلك قد مارسوا القتل والتعذيب لإجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم، وقد أجبرت المسلمين على ترك بلادهم وأموالهم والخروج من مكة بدون وجه حق، فمن يمارس كل هذه الأفعال والتصرفات لا يحق له مطالبة الآخرين بالتمسك بأي معايير أو قواعد، فعليه الالتزام بذلك قبل طلبه من الآخرين الالتزام بها، فموقف قيادة أحزاب اللقاء المشترك من فتنة صعدة يشبه إلى حد كبير موقف قريش فمطالبة الدولة التوقف عن القتال يعني إعطاء الضوء الأخضر لرؤوس هذه الفتنة بأن يستمروا في قطع وقتل الأبرياء وممارسة كل أنواع الجرائم بدون رقيب أو حسيب.
فالموقف الشرعي من دعاة فتنة صعدة لا يختلف عن الموقف الشرعي من الخوارج، فلا أحد من المسلمين صدق شبهات الخوارج لتناقضها مع المحكم من كتاب الله، ولا أحد أيضاً يمكن أن يصدق شبهات دعاة الفتنة في صعدة، لقد ترتب على شبهات الخوارج تكفير علي كرم الله وجهه واتباعه وإباحة دمهم بل ودماء جميع المسلمين من غيرهم في حال نجاح فتنة صعدة ولا سمح الله فسيترتب عليها تكفير الصحابة وكل من يواليهم، إن ذلك يعني تكفير جميع اليمنيين سواء كانوا من أتباع المذهب الزيدي أو من أتباع المذاهب الأخرى وسواء كانوا ينتمون إلى الهاشميين أو ينتمون إلى فئات أخرى.
إن حملهم للسلاح في وجه الدولة والتسبب في إراقة الدماء بطريقة عبثية وإهدار الموارد العامة وعرقلة جهود التنمية هو ظلم ليس له ما يبرره على الإطلاق ومؤشر قوي على ما ينوون فعله في حال نجاحهم، فما يقومون به في صعدة يتناقض مع الشعارات التي كانوا يرفعونها في بداية الأمر، إن ذلك يدل بشكل واضح على تعمدهم ممارسة التضليل والتدليس، فما قتله هؤلاء فعلاً هم اليمنيون وليس الذين كانوا يتمنون لهم الموت، وقد أزهق دعاة الفتنة أرواح اليمنيين من غير تمييز بين الهاشميين وغيرهم.
وكذلك فإن من الواضح أن من تضرر من هذه الفتنة هم جميع أبناء اليمن، فالموارد التي تسبب في إهدارها سيتحمل جميع اليمنيين تكاليفها ومن ثم فلا يصدق عاقل إدعاءهم.
فلا يوجد أي خيار سوى القوة لردع هؤلاء ومنعاً للفتن وأضرارها بعد أن جرى اتقاؤها بكل الوسائل الممكنة وفقاً لأمر الله تعالى يقول الله تعالى في سورة البقرة «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ» (البقرة 193).
ولذلك فقد كان على المشترك والمتوكل أن يوجهوا اللوم إلى من تسبب في قتل الناس في صعدة وليس إلى الحكومة التي تسعى إلى القضاء على الفتنة، فموقف هؤلاء من الفتنة هو في الحقيقة موقف من يسعى إلى الفتنة فلا فرق بين من يحاول أن يفرض تميز سلالة هو ظالم وبالتالي فإنه من دعاة الفتنة وبين من يبرر له ذلك.
فالواجب على أمثال المتوكل هو قتال هؤلاء بغض النظر عن سلالتهم أو مذهبهم، ولا يبرر لمثل هؤلاء وجود تشابه بينهم وبين دعاة الفتنة في السلالة أو المذهب أو في التفكير، وكذلك لا يبرر لمثل هؤلاء مناصرة هؤلاء أو التعاطف معهم أو تمني انتصارهم لأن لديهم خلاف مع الدولة.
ومن الواضح أن من تعاطف أو برر أو شجع أو فرح أو تقاعس عن إطفاء الفتنة التي أشعلها الحوثي في صعدة هو في الحقيقة لم يتقها وبالتالي فإنه قد خالف قول الله تعالى هذا، إن على من وقع في ذلك أن يتوب إلى الله تعالى توبة نصوحاً فعليهم الاعتراف بخطئهم وسرعة التوقف عن هذه التصرفات والعزم على عدم العودة، ما لم فإن آثامها قد تصيبهم في الدنيا أو في الآخرة.
* وزير المالية السابق
* نقلاً عن الثورة