الخميس, 10-يوليو-2008
الميثاق نت -                                     د.عبدالرحمن محمد الشامي -


هل نحن اليوم نعيش أزمة حقيقية؟ أم أن هناك حالة من التأزيم الصناعية حيناً، والمصطنعة أحيانا أخرى؟ ليست المسألة من قبيل التفلسف الفارغ، ولا هي محاولة للتبرير لطرف من ناحية، وإلحاق التهم بآخر من ناحية أخرى. فالقضية غاية في الجد، وهي في حاجة إلى تقص محايد، وتأمل مخلص وصادق،

يفضي إلى تشخيص حقيقي لمشاكل الوضع الراهن، بما يساعد على تبين الحل بعد ذلك، فالتشخيص السليم، هو بداية التعاطي الحقيقي مع المرض، وما عدا ذلك يبقى تعاملا مع الأعراض، من دون قدرة على النفاذ إلى صلب الموضوع، وهنا بدء الإشكالية، وبداية حدوث المشكلات.
هناك توجه غريب يبرز اليوم على الساحة اليمنية، يهدف من خلاله البعض إلى تصوير الوضع على نحو يتسم بكثير من المبالغة التي لا تخلو من التجني، يصل حدا وكأننا نقف على عتبات الفوضى، وحافة السقوط والانهيار، فيشيعون ثقافة سلبية بين الناس، وبخاصة منهم الناشئة، ويذيعون صورة سيئة عنا، وعن حياتنا بين الآخرين، والواقع أن ما يفعلونه هو مما يقع في خانة إشاعة ثقافة التأزيم، أكثر من كونه أزمة واقعية تتجسد في بعض مظاهر حياتنا.
أمر طبيعي ومفهوم، أن يعيش بعض الناس في بعض الأوقات حالة من الأزمة، وأن ينال الأمم والأوطان شيئاً من ذلك، تلك هي طبيعة الحياة، وهذا هو جزء من حالها، لكن أن تتحول الأزمات إلى صناعة، وأن يصبح العمل على تأزيم الحياة مهمة عند البعض، فنحن في هذه الحالة نكون أمام وضع غريب، وصنف أغرب من الناس، يصبح التعامل معهم غاية في التعقيد، كما يصعب التعامل مع وضع من هذا النوع، غير أنه تعامل لا بد منه، كما أن التعايش معهم حقيقة لا مفر منها.
ففي الحالة الأولى، وهي حالة مرور الأوطان بأزمة حقيقية، يصبح مطلوباً من الناس جميعاً الوقوف جنباً إلى جنب في مواجهة هذه الأزمة، والبحث في أسبابها الحقيقية، والاصطفاف الوطني لمواجهتها، حيث المصلحة واحدة، والضرر يلحق الجميع، فالأزمة هنا تغدو مصدراً لجمع القوى، وحشد القدرات لمواجهة هذا الوضع، ولا يخرج عن هذا التوجه الجمعي إلا من ندر، حيث تنبذهم الأمة، ويلفظهم الناس.
ليس الاصطفاف الوطني هو وحده سلاح الأمة في مواجهة الأزمات الفعلية، ولكن أيضا البحث في أسبابها الحقيقية، من دون تهوين من شأنها، ولا تهويل من وقعها عليهم، تفضي إلى عواقب غير مرغوبة في كلا الحالتين، وهنا تبرز مدى جدية البعض في التعاطي مع الوضع الذي تكتنفه بعض مظاهر الأزمة الحقيقية، لا التأزيم المصطنع. وهنا تبدأ مرحلة التعاطي العقلاني والمنطقي مع مشاكل الأمة وقضاياها، فإطلاق الأحكام العامة هو مما يضع الأمور في هلاميات، يصعب الإمساك بها أولا، والتعاطي معها ثانيا، فمن ينطلق من رؤية غير واضحة، أو يبدأ بداية غير صحيحة، ينتهي به الحال إلى لا شيء، أو إلى ما لا طائل منه. وهذا هو ما يحاول البعض إشاعته بيننا، وللأسف فقد حقق أصحاب هذا التيار بعض النجاحات في هذا الخصوص، على نحو أضر بنا أولا، وعقَّد مشاكلنا ثانيا، وضاعف من عواقبها علينا وعلى بلادنا، والخطورة تكمن في العواقب المستقبلية التي يمكن أن تترتب جراء استمرار هذا التوجه، وانتشار دائرته بين الناس، وبخاصة منهم فئة الشباب.
لنأخذ على سبيل المثال، بعض مظاهر الفساد الموجودة اليوم في حياتنا، وكيف أن الحديث الهلامي في هذا الموضوع قد أفاد المفسدين، في المقام الأول، وأشاع ثقافة كلامية عن الفساد، أعطت الوضع أكبر من حجمه، وتاهت وتوَّهت عن البحث الحقيقي في أسبابه، فبدلا عن الوقوف إلى جانب المحاولات الرسمية الرامية إلى مكافحة مظاهر هذا الفساد، ومؤازرة الجهود التي تتم في هذا المجال، استمر أصحاب الكلام في لوك هذه الكلمة، وترديدها ليل نهار على مسامع الصغار والكبار، وكأن الجميع فاسدون، وكأن لم يعد بيننا صاحب صالح ولا صاحب ذمة أو ضمير. ليس هذا تبريرا للفساد، ولا هو دفاع عن المفسدين، بقدر ما هو محاولة للتنبيه إلى مخاطر اعتساف الحقائق، فالحديث –مثلا- عن فساد الجهاز الإداري، لا يعني الحديث عني وعنك، وعنه وعنها، بحكم انتمائنا إلى هذا الجهاز، وبوصفنا جزءاً من مكوناته، ومن ثم فإن الحديث في هذا الصدد، كان ينبغي أن يأخذ نحوا أكثر موضوعية، وأشد جدية، وأقل عمومية، إذا أردنا فعلا التعاطي مع مظاهر الخلل الاجتماعي الحقيقية في حياتنا، لكن الشائع والأعم هو غير هذا للأسف. في حين أن شيئا واحدا فقط كان يمكن أن يصيب الفساد والمفسدين في مقتل، وهو أنفع من كل هذه الزوبعات الإعلامية والخطابية في المحافل والمنابر المختلفة، ، وهو كشف، ولو حتى ممارسة فاسدة واحدة، وفضح مفسد واحد، بالدليل والبرهان، بدلا من كل هذا الضجيج العام، والصراخ الخاوي الذي لا يفضي إلى نفع، أو تترتب عليه فائدة.
إن الخلل الذي يكتنف التعاطي مع مشاكلنا على هذا النحو، يكمن في الأساس في الفهم القاصر لمعنى المعارضة، والانطلاق من قاعدة ضالة ومضِّلة، ترى أن كل ما يأتي عن الحزب الحاكم هو شر كله، ومن ثم ينبغي الوقوف ضده، وأن الخير كل الخير يكمن في المضي قدما في معارضته بقدر المستطاع، والعمل في هذا بكل الطاقة والوسع، من أجل إضعاف النظام الحاكم، فضعف الحاكم إن ما يعني في المقابل قوة المعارضة، وهنا تكمن أحد مواطن الزلل، ويقع أدعياء الإصلاح في مواطن الضرر، والذي يأتي من عدم التفريق بين ما هو منجز وطني ثابت، النيل منه يضر بالجميع، وبين ما عداه من المتغيرات الأخرى، فما تحقق للوطن عبر سنواته الطوال، هو ملك تتوارثه الأجيال، كما سيتوارثون الأضرار التي نخلفها لهم، وأخطرها التشكيل الذهني، والبناء الثقافي المعوج.
صحيح أن في حياتنا اليوم مظاهر عديد من الاختلالات الاجتماعية، وهناك صور من الفساد الإداري والاقتصادي والسياسي وغيره، لكن وضعها جميعا في سلة واحدة هو مما لا يسهم في حلها، ولا يساعد عليه، كما أن تشخيصها على النحو القائم عليه اليوم في عموميات هلامية، هو مما يشيع ثقافة سلبية بين الناس، ولا يقدم الحل، بل على العكس تضعف عنصر المشاركة في البناء، ومن ثم فإن القضية في حاجة إلى تعاط على نحو مختلف، سواء من الناحية الفكرية، أو العملية، ويأتي في البدء هجر منطق الهدم الذي لا يمكن أن يفضي إلى البناء في أي حال من الأحوال. فالانحياز إلى صف البناء الوطني، والوقوف في وجه الفاسدين والمنتفعين والحاقدين هي جماع ما يمكن للشرفاء في هذا الوطن الالتفاف حوله، مهما كانت انتماءاتهم الفكرية، وتوجهاتهم السياسية. هذه هي الكلمة السواء التي يجب أن نجتمع عليها سوياً، وكل ما عداه زيغ وضلال وبهتان، وزيف وتلبيس وتدليس.
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 09:28 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-7485.htm