فيصل جلول* -
في 17 تموز يوليو عام 1978 كان المشهد في صنعاء وعموم اليمن يحتاج الى موهبة مؤلف درامي مقتدر لوصف مقاتل الرؤساء اليمنيين الثلاثة الذين سقطوا الواحد تلو الاخر خلال اقل من ستة اشهر خلت.ظروف اغتيالهم ما زالت حتى الآن موضع اضافة واختصار ومبالغة بحسب الرواة، غير ان التفاصيل الاساسية باتت معروفة
او فلنقل انها تحظى باجماع شهود من حساسيات سياسية مختلفة.
في هذا الشهر وربما قبله بقليل كان حال اليمن شبيها بحال مرجل لا يكف عن الغليان. وكانت اطراف محلية واقليمية ودولية تعمل على ايقاد ناره.في الشمال كان الصراع على الدولة وداخل الدولة على اشده. اطراف محلية مدعومة من شمال وشرق الحدود تتصارع مع اطراف اخرى مدعومة من جنوبها وفي الوسط كتل واحزاب وتيارات وقبائل تتمايل بحركة بهلوانية بين هذا الطرف وذاك. اما في الجنوب فقد انتصر الجناح الاكثر راديكالية واخذ يعد العدة لبسط سيطرته على الشمال بكافة الوسائل التي يراها مناسبة.
وفي الشهر نفسه كان جيش الشمال وكانت قواه الأمنية مجزأة الى وحدات وألوية تتبع لآمريها المباشرين وحدهم. وكانت الكتل الحزبية والقبلية المسلحة تتحفز لمواجهة بعضها البعض وللتصدي لأية سلطة لاتنتسب الى كل منها. وكان كل فريق يعتقد ان الظرف مناسب لتولي الحكم. فالدولة كانت على الارض وتنتظر من يلتقطها.اما الاقتصاد فكان مبنيا على المساعدات الخارجية ولا تسل عن الحكومات والسلطة التنفيذية فهي كانت تشكل في الخارج وليس في القصر الجمهوري وسط العاصمة. في ظل هذه الاجواء اجتمع مجلس الشعب التأسيسي في 17 تموز يوليو لاختيار رئيس للجمهورية وكان علي عبدالله صالح مرشح المنصب الوحيد بعد فشل محاولة لتنصيب القاضي العرشي. اما الفشل فيرد بحسب المصادر لاسباب مختلفة إذ يقول البعض ان القاضي طالب بصلاحيات وضمانات استثنائية في الجيش والدولة لم يكن احد قادر على منحه اياها ويقول البعض الآخر ان العرشي كان محسوبا على تيار لا يحظى بتأييد قوى غالبة في المجلس التأسيسي، فيما يرى البعض الثالث ان عائلة الرجل ما كانت تريد له الجلوس على كرسي اكثر شبها بكرسي الاعدام من كرسي الرئاسة ولربما صحت الاسباب المذكورة مجتمعة.
قبل التئام المجلس التأسيسي لم يشهد المنصب الرئاسي تدافعاً يذكر بين طامحين معروفين. وثمة من يؤكد ان صالح قبل بترشيح نفسه بعد تدخلات عديدة وأنه طلب قبل ذلك من القاضي العرشي ان يتسلم الرئاسة فامتنع وبعد امتناعه قبل صالح المنصب شرط ان يبارك مجلس الشعب التأسيسي اختياره وهو ما حصل بالفعل.فقد اقترع لصالحه كل الاعضاء الا واحدا هو السيد محمد الرباعي الذي ما انفك معارضا حتى هذه اللحظة دون ان يتعرض للملاحقة بسبب موقفه.
قلب انتصار الرئيس الشاب على محاولة اكتوبر الانقلابية موازين القوى الداخلية رأسا على عقب. فاخذت الكتل السياسية النافذة تبحث في كيفية ترتيب أوضاعها مع الحكم وليس خارجه أو عبر الرهان على سقوطه. من جهته أخذ صالح يخوض سباقاً مع الوقت فقد بادر فوراً الى تطهير الجيش والقوى الأمنية من الحالمين بانقلابات عسكرية وعزز اجراءت الحماية من حوله وأعاد النظر في هيكلة القوات المسلحة .
لم يكن فشل الانقلاب محصورا بالمسؤولين عن المحاولة وحدهم بل طال ايضا مؤيديهم الخارجيين الذين قرروا الا يمنحوا الرئيس فرصة طويلة لالتقاط انفاسه وبالتالي تطهير جيشه من مراكز القوى والولاءات الخارجية. لذا انطلقت من عدن حملة عسكرية كبيرة بعد اربعة اشهر من الانقلاب المذكور أي في 20/2/1979م واجتازت الحدود بهدف اسقاط النظام الشمالي وكادت ان تنجح لولا صمود مستميت في بعض المواقع الشمالية و تدخل عربي كثيف انقذ الموقف وادى الى تراجع المهاجمين ومن بعد الى سقوط الرئيس عبد الفتاح اسماعيل الذي اشرف شخصيا على الحملة. ومع سقوط اسماعيل تبين ان الرئيس الصنعاني الشاب قادر ليس فقط على تغيير ميزان القوى في بلاده وانما ايضا على المشاركة في لعبة اقليمية ناجحة غيرت خريطة القوى في محيط اليمن. ومنذ ذلك الحين انعطف الشمال اليمني باتجاه اخر فلم يعد الرئيس صالح مؤقتا ولا انتقاليا في نظر خصومه واصدقائه على حد سواء بل لاعبا مركزيا في الداخل والخارج ويظل كذلك طيلة العقود الثلاثة الماضية.
بوادر التغيير الاولى تمثلت في التخلص من مراكز القوى الموالية للخارج والمناهضة لعدن في حكومة الرئيس ثم في اقناع خليفة « فتاح» الرئيس علي ناصر محمد بصدق نواياه والعمل معه على انقاذ المناطق الوسطى في شمال اليمن من حرب عصابات ايديولوجية مدمرة لسكان المناطق نفسها وغير مؤثرة بعمق على مركز الدولة في صنعاء لاسيما بعد تحول الحرب المذكورة من حرب ايديولوجية شارك فيها الماركسيون من جهة والاسلاميون وقوات السلطة من جهة اخرى الى حرب اهلية حقيقية انهكت فئات اريد لها في الاصل ان تكون المستفيد الاول من الحرب.. مع وضع حد لهذه الحرب ومع اشاعة الاستقرار على الحدود الجنوبية عمل صالح على تثبيت الاستقرار المؤقت ومن ثم تحويله الى استقرار دائم فحصن وضع بلاده الداخلي عبر اتفاقات واتصالات اقليمية ودولية شملت قطبي الحرب الباردة في حينه. ساعده في ذلك ان الاتحاد السوفييتي كان مؤمنا بأن اليمن يقع في منطقة مصالح استراتيجية غربية من الدرجة الاولى وأن علاقة السوفيات بالغرب كانت خاضعة لقواعد لعبة دقيقة يحرص كل طرف فيها على اللعب في منطقة مصالحه كما يحلو له ويتجنب السياسة العسكرية الهجومية في مناطق الخصم لان مثل هذه السياسة قمينة بالانتقال من الحرب الباردة الى الحرب المرعبة التي تطيح بالكرة الارضية ومن عليها.
ومن المفارقات الملفتة في ذلك الحين ان شمال اليمن انتقل خلال سنوات قليلة من حالة الرجل المريض في شبه الجزيرة العربية الى حالة مختلفة تماما. من ساحة مشرعة ومفتوحة على الصراعات الاهلية و الاقليمية في العام 1978 الى لاعب مهم في هذه الصراعات كما لوحظ في احداث يناير كانون الثاني عام 1986 اي خلال اقل من ثماني سنوات فقط لا غير.
يمكن تلخيص ابرز عناصر استراتيجية علي عبدالله صالح في الثمانينات بثلاث قضايا كبيرة: توفير الاستقرار الداخلي للحكم عبر العمل مع القوى الاقليمية والدولية على دعم الاستقرار في البحر الاحمر وشبه الجزيرة العربية اكتساب المزيد من استقلالية القرار في الشؤون اليمنية عبر تنويع مصادر الدخل والرهان على استخراج النفط اليمني لتدعيم استقلال البلاد واستقرارها في الان معا. واخير العمل الهاديء والصبور على تحقيق الوحدة اليمنية بعد ان لاحت في الافق بوادر تغيير حاسم في السياسة الداخلية والخارجية للاتحاد السوفياتي.
لقد تمكن الرئيس اليمني خلال 12 عاما فقط من تغيير وجه بلاده واعادة توحيدها وتزويدها بالنفط كمصدر مهم من مصادر استقلالها. بيد ان سنوات المد اليمني ستتلوها مع الاسف سنوات جذر ومخاطر تمثلت في ارتداد اليمنيين نحو اوضاعهم الداخلية واستسلامهم لصراعات عقيمة مدعومة من الخارج ومن ثم اندلاع الانفصال الايديولوجي .
اغلب الظن ان الانفصاليين اليمنيين لم يستفيدوا من دروس انقلاب اكتوبر تشرين الاول عام 1978 ولا من دروس حرب العام 1979 الحدودية بين الشمال والجنوب ولعلهم قرأوا الحدثين بصورة مغلوطة والا لما دخلوا حرب العام 1994.ذلك ان الحدثين الماضيين انطلقا من تحليل مفاده ان سلطة الرئيس صالح مؤقتة وانتقالية و انطلقت الحرب الاخيرة ايضا من التحليل نفسه الذي يقول ان الرئيس اليمني فقد الكثير من عناصر قوته على الصعيدين الداخلي والخارجي بعد حرب الخليج الثانية وان الضغط عليه يمكن ان يؤدي الى الاطاحة به والسيطرة على السلطة في اليمن الموحد في افضل الاحتمالات والعودة الى نظام الدولتين في اسوأ السيناريوهات. ولعل تطورات الحرب واعلان الانفصال ومن ثم الهزيمة برهنت مجددا ان بعض المعارضين يرتكبون اخطاء قاتلة عندما يبنون تحليلاتهم للاوضاع في بلادهم بالاستناد الى رغباتهم اكثر من الركون الى الوقائع القاهرة.
وكما في بداية حكمه في السبعينات, استخدم صالح انتصاره في حرب العام 1994 واستعادته لارخبيل حنيش من بعد, في تحقيق الانتصار الاكبر بعد الوحدة اي تخطيط حدود اليمن وترسيمها مع كل الدول المجاورة وادخالها مرة واحدة والى الابد في اطار القانون الدولي وبالتالي تقديمها الى العالم ليس بوصفها ليس بلدا يخطف فيه الاجنبي السائح فحسب وانما كمكان ملائم للاستثمار والنشاط الاقتصادي والتبادل التجاري الذي تسري عليه الفوائد والقوانين.
لا يستطيع احد في اليمن او خارجها القول بقدر من الجدية كيف كان يمكن ان تكون عليه اوضاع اليمن لو تولى القاضي العرشي او غيره حكم البلاد في العام 1978. ذلك ان هذا النوع من الاسئلة الافتراضية يستدعي اعادة التاريخ الى الوراء وهو لا يعود قطعا.لكن المراقب المنصف ملزم بالاستنتاج المدعم بالقرائن والادلة ان علي عبدالله صالح تمكن خلال العقود الثلاثة الماضية من توحيد بلاده و تغيير وجهها في مجالات عديدة ومن الطبيعي ان يتجمع متضرورون خلال هذه العقود الجمهورية والوحدوية ومن الطبيعي ان يسعى هؤلاء لاعادة التاريخ الى الوراء بيد ان التاريخ لا يتقهقر والدليل ان تمرد اقصى الشمال يلفظ انفاسه الاخيرة او يكاد..وكل عام وانتم بألف خير.
[email protected]