أحمد الحبيشي -
في يوم الثلاثاء 15 يوليو 2008م، وتحت شعار (حتى لا تغرق السفينة)، التقى في قاعة أبولو بالعاصمة صنعاء حوالي ثلاثة آلاف ناشط سياسي من رجال الدين والقيادات والكوادر الحزبية وخطباء المساجد الذين يمثلون الجناح السلفي للتجمع اليمني للإصلاح، بمشاركة مكشوفة من كافة المدرسين والطلاب والعاملين والحُراس في جامعة الإيمان،
وبضمنهم مئات العاطلين عن العمل من خريجي هذه الجامعة الدينية، إلى جانب حضور محدود لبعض الشخصيات القبلية.خرج هذا الملتقى بإشهار ما تسمى (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بصورة غير شرعية، وبأسلوب مخالف للقانون الذي لا يجيز إشهار أي حزبٍ سياسي أو منظمة غير حكومية قبل الحصول على ترخيص من لجنة الأحزاب والتنظيمات السياسية أو وزارة الشؤون الاجتماعية، وبشرط حضور ممثل عن إحدى هاتين الجهتين للتأكد من سلامة إجراءات التأسيس وانتخاب الهيئات القيادية في ضوء قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية أو قانون المنظمات والجمعيات غير الحكومية.
واللافت للنظر أنّ مؤسسي هذه الهيئة غير الشرعية حاولوا إضفاء الشرعية الدينية عليها من خلال الزعم، بأنّها قامت بموجب تكليف إلهي من رب السماء، يسمح لعصبة من رجال الدين المشتغلين في السياسة والعمل الحزبي بإنقاذ سفينة البلاد والعباد من الغرق، حيث زعمت العصبة المؤسسة لهذا الكيان غير الشرعي أن البلاد سقطت في المعاصي والحفلات الغنائية والموسيقية والمهرجانات السياحية، وغرقت في الفساد الأخلاقي والرذيلة، بعد أنْ أصبح شيطان النساء ينشر الفسوق والمجون في كل مكان يلتقي فيه الرجال والنساء، سواء في مواقع العمل والإنتاج والمدارس والجامعات، أو في المجمعات التجارية والمطاعم وحافلات النقل العام ومحلات الانترنت والساحات والحدائق العامة، والشوارع والمتنفسات الطبيعية والمطارات والموانئ ومستشفيات الدولة والمراكز الانتخابية.
لا يكتفي الملتقى بهذا القدر الخطير من تفسيق المجتمع والتشكيك في أخلاقياته وفضائله، بل أنّه يصل إلى الدولة ويفرط في تكفيرها بالقول إنّها أصبحت تحكم بمناهج كفرية شركية وإباحية، فيما تعرضت الصحافة لهجوم شرس من قبل مؤسسي الملتقى، وصل إلى حد اتهامها بالدعوة إلى الحرية الجنسية والسخرية من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحت مسمى ((حرية الصحافة)) التي قال البيان الصادر عن الملتقى إنّها تندرج ضمن المخططات الصليبية والصهيونية التي تستهدف القضاء على الهوية الإسلامية ليمن الإيمان دولةً وشعباً!!
وفي حركة مسرحية مثيرة رفع مؤسس الملتقى أثناء إلقاء كلمته كتيباً صغيراً، تمّ توزيعه على الحاضرين بتوقيع عدد قليل من رجال الدين الحزبيين وبعض الدعاة وخطباء المساجد، وتضمن فتوى بتحريم (الكوتا) النسائية التي وردت في مشروع التعديلات الدستورية المقدم من فخامة رئيس الجمهورية، ومطالب منظمات المجتمع المدني، وقد زعم أصحاب هذا الكتيب أنّ مشاركة المرأة في مجلس النواب مخالف لشريعتهم، وانها ستؤدي الى انتشار الرذيلة في المجتمع، وستفتح الباب لتسابق النساء على الخروج إلى الانتخابات وانجذاب الرجال اليهن والى زينتهن وروائحهن العطرة، حيث سينشأ عن ذلك فوضى جنسية، كما طالب أصحاب الكتيب بمنع المرأة من العمل، لأنّ اختلاطها بالرجال سيؤدي إلى إنشاء عَلاقات عاطفية وجنسية غير مشروعة، وإغراق البلاد بالأولاد غير الشرعيين!! (يا سبحان الله).
بوسع كل من يتأمل الكلمات والتصريحات والمطالب التي أُثيرت في الملتقى، والبيان الذي تمّ الإعلان عنه في المؤتمر الصحفي ونشرته صحيفة ((أخبار اليوم)) في عددها الصادر يوم الأربعاء 16 / 7 / 2008م وصحيفة (الشموع ) في عددها الصادر يوم السبت 19 يوليو 2008م، ملاحظة الطابع السياسي الحزبي لهذه الهيئة التي تحاول استخدام الدين كغطاء لتنفيذ مخطط انقلابي كهنوتي إقطاعي يستهدف القضاء على النظام الديمقراطي التعددي ، ومصادرة الحقوق والحريات المدنية وتقويض الأسس الدستورية لدولة المؤسسات المنتخبة من قبل الشعب مباشرة، بوصفه مالك السلطة ومصدرها، واستبدالها بنظام كهنوتي يقوم على مؤسستين ثيوقراطيتين فقط: الأولى هي مؤسسة ولاة الأمر. والثانية هي مؤسسة رجال الدين الكهنوت، وبينهما أهل الحل والعقد من كبار المتنفذين والإقطاعيين، وبما يجعل من هاتين المؤسستين وأهل الحل والعقد مالكاً وحيداً للسلطة والثروة، بذريعة الحاجة إلى (إنقاذ السفينة من الغرق)!!
وعند هذه النقطة يتم استدعاء خبرة الإرهاب ودمجها بأدوات (الأمر والنهي)، ولا بأس هنا أنْ يتم تجميد الشكل الجهادي المسلح للإرهاب، واستخدام إرهاب التكفير وإرهاب التفسيق ضد الدولة والمجتمع، كوسيلة للانقلاب الآمن على النظام الديمقراطي التعددي والاستيلاء على السلطة. وهو ارهاب غريب على مجتمعنا وبلادنا التي لايمكن أن تكون ملاذاً آمنا لأي شكل من أشكال الارهاب، ومن الطبيعي أن يشعر بالغربة في بلادنا كل من يتوهم بامكانية المراهنة على ممارسة أو دعم الارهاب المسلح أو إرهاب التكفير والتفسيق في داخل بلادنا، وفي ظل نظامنا الديمقراطي التعددي، فالارهاب بكال أشكاله وأنواعه منكرٌ مدمر، ولا هدنة مع هذا المنكر.
بوسعنا القول إنّنا الآن أمام هيئة غير شرعية (للأمر والنهي) أعطت لنفسها حق الوصاية على الدين والدولة والمجتمع، واتهام الدولة ومؤسساتها ومنظمات المجتمع المدني والأفراد -رجالاً ونساءً- بممارسة الفسوق والرذائل وحمايتها، وتطبيق المناهج الكفرية والشركية والإباحية التي تستوجب إقامة مجازر دموية لعشرات الألوف من قادة الدولة والمجتمع والأحزاب والتنظيمات السياسية والنساء والمثقفين والمفكرين والصحفيين بواسطة محكمة تفتيش دينية، وتمكين كهنة هذه المحكمة من ممارسة الوصاية على الدولة والمجتمع، الأمر الذي يؤكد صحة الاستنتاجات التي توصلنا إليها في الحلقات الأربع السابقة من هذا المقال، بهدف التصدي لهذا المشروع الخطير الذي يستهدف الانقلاب على الدولة المدنية الموحدة ونظامها الديمقراطي التعددي تحت مسمى (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وتحت شعار ((حتى لا تغرق السفينة)).. وما سيترتب على ذلك من انقسام عمودي وأفقي على مستوى الدولة والمجتمع، ومخاطر تنذر بالقضاء على النظام الجمهوري والانقلاب على الديمقراطية التعددية ، وتقسيم الوطن الى أشلاء، وتمزيق وحدة النسيج الوطني والديني للمجتمع، وصولاً إلى إعادة عجلة التاريخ إلى ما قبل الجمهورية، وربما إلى نقطة بعيدة في العصور الغابرة.
وبالنظر إلى أنّ الذين يخططون لهذا الانقلاب هم من الحرس الكهنوتي القديم في حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يقود ويوجه تكتل أحزاب المعارضة المنضوية في إطار ((اللقاء المشترك)) باتجاه إضعاف الحزب الحاكم، وتمهيد الطريق لإفشال البرنامج الانتخابي لفخامة رئيس الجمهورية والمؤتمر الشعبي العام الذي حاز على ثقة غالبية الناخبين عبر صناديق الاقتراع، والوثوب إلى السلطة بعد ذلك سواء بالوسائل الديمقراطية التكتيكية التي يمارسها حزب ((الإصلاح)) من خلال تكتل ((اللقاء المشترك))، أو بالوسائل الانقلابية السافرة التي يسعى إلى ممارستها الحرس الكهنوتي القديم في حزب (الإصلاح)) من خلال ما تسمى هيئة (الأمر والنهي) التي كشفت المضمون الحقيقي لبرنامج حزب (الاصلاح)، وهو ما يدفع إلى الاستنتاج بأنّ ثمة خلافات داخلية حادة تدور بين الجناحين المدني والكهنوتي لحزب ((الإصلاح)) حول قضايا تتعلق بالديمقراطية والحريات المدنية وحقوق المرأة والموقف من الآخر في المجتمع المحلي والنظام الدولي، أو الاستنتاج بأنّ الخلافات تدور حول الأولويات فقط في إطار توزيع الأدوار بين تيار براغماتي يعمل على توظيف التحالف مع أحزاب ((اللقاء المشترك)) والتواصل مع السفارات والهيئات الدولية بهدف تعظيم فرص إضعاف النظام داخلياً وخارجياً، وبما يعزز فرص الاستيلاء التدريجي على السلطة انطلاقاً من ما يسميه كهنة الإسلام السياسي (فقه التمكين) و(فقه الأولويات )، وبين تيار كهنوتي يضع في أولوية أجندته الأساسية حراسة المشروع الإستراتيجي لحزب ((الإصلاح))، وهو القضاء على النظام الجمهوري وإقامة نظام الخلافة السني بدلاً من نظام الإمامة الشيعي، الذي قضت عليه ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م.
قد يكون هذا الاستنتاج ظنياً وليس يقينياً.. ومن واجبنا في هذه الحالة عدم إتباع الظن، لأنّ بعضه آثم، (وَأنَّ الظِّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِِّ شَيْئاً) (النجم 28)، لكن ذلك لا يمنعنا من التساؤل عن أسباب صمت الجناح السياسي المدني لحزب ((الإصلاح)) الذي يقود فعلياً كتلة ((اللقاء المشترك))، ويرأس الدورة الحالية لمجلسه التنفيذي، خصوصاً وأنّ عدداً كبيراً من الصحف الرسمية الحزبية الأهلية نشرت البيان الذي استنكر فيه ((اللقاء المشترك)) قيام هذه الهيئة البوليسية المشبوهة، بينما امتنعت صحيفة ((الصحوة)) وبقية صحف حزب ((الإصلاح)) والصحف التي يمولها عن نشره، وسيكون مفيدا لحزب (الاصلاح) حسم أزمته البنيوية في حياته الداخلية، بدلا من تصديرها الى المجال السياسي للدولة و المجتمع . ويمكن حل هذه الأزمة من خلال تبني حزب (الاصلاح) مطالب ملتقى (الأمر والنهي) في برنامجه الانتخابي الذي سيخوض به انتخابات مجلس النواب في ابريل 2009 القادم، أومن خلال قيام الحرس القديم وانصاره بتشكيل حزب مستقل يتخذ من وثائق ومخرجات ملتقى (الأمر والنهي) برنامجاً سياسياً يخوض به الانتخابات القادمة.
والثابت أنّ الطريقة التي تمّ فيها إشهار هيئة ((الأمر والنهي)) غير الشرعية انطوت على خطاب سياسي انقلابي كهنوتي يتعارض مع الخطاب السياسي والإعلامي الذي يتولى الجناح المدني في حزب ((الإصلاح)) تسويقه من خلال أحزاب ((اللقاء المشترك)).. لكنّ ناشطي الجناح المدني في حزب ((الإصلاح)) حرصوا طوال الفترة الماضية التي سادها نقاش ساخن حول الدعوة لإنشاء هذه الهيئة البوليسية على أنْ يمسكوا العصا من الوسط !!.
في هذا السياق كان الزميل فوزي الكاهلي قد شارك في هذا النقاش بمقال نشرته صحيفة ((الناس)) التي يمولها حزب التجمع اليمني ((للإصلاح)) في عددها الصادر بتاريخ 30 يونيو 2008م بعنوان ((الأمر بالعدل والنهي عن الفساد)) في محاولة لتحسين وتلطيف صورة هذا المشروع . ومما لا شك فيه أنّ القرآن الكريم يقدم منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات والقيم والمبادئ التي تندرج في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بوصفها نظاماً متكاملاً لحياة إنسانية تقوم على أسس الحق والعدل والشورى والحرية، وتشجع على العمل والتعليم والبذل والإبداع، وتصون الكرامة، وتحفز على زيادة مصادر الثروة وفرص الرزق، وتتيح الوسائل الفعالة لمكافحة الشر والظلم والفقر والاستغلال، وتطبيق القانون ومنع العدوان على ممتلكات الأفراد وحرماتهم، وغير ذلك من الجرائم التي تلحق الضرر بالعقل والنفس والنسل والمال والمعتقدات الدينية، وتهدد السلم الأهلي والتكافل الاجتماعي.
من نافل القول إنّ منظومة القيم والمبادئ والحقوق والواجبات التي تضمنتها الأوامر والنواهي الإلهية الواردة في القرآن الكريم، تتكامل على نحوٍ يجعل من غياب إحداها سبباً في اختلال ميزان هذه المنظومة القيمية المتكاملة، فغياب العدالة يؤدي الى انتشار الظلم والاستغلال وانعدام الشعور بالأمان، فيما يؤدي الاستبداد السياسي والجمود الفكري إلى غياب الحرية وتغييب العقل وسيادة الجهل وانتشار الفقر وتكريس التمييز الطبقي بين الناس، وشحة الحوافز التي تشجع على العمل والانتاج في سبيل تحسين مستوى الحياة الحرة والكريمة.
وعندما تتم ممارسة الاستبداد والظلم والتسلط والخداع باسم الدين، تضعف المكانة السامية للعقيدة في النفوس، فيما تبرز الحاجة للدفاع عن العقيدة وحمايتها من كل أشكال الوصاية عليها، ومنع توظيفها لتحقيق أهداف ومصالح دنيوية تتعارض مع قيمها ومبادئها ومقاصدها، حيث تتحول العقيدة الدينية تبعاً لذلك من فضاء روحي يمنح الحياة عناصر القوة وحوافز التجدد والاستمرار، إلى مؤسسة منغلقة على صراع بين المبادئ والقيم والمقاصد النبيلة والمصالح المرسلة من جهة، وبين الأهواء والأغراض الدنيوية الضيقة من جهة أخرى، وما يترتب على ذلك من تشوّهات تؤدي إلى إفقار الحياة وإنهاكها بالآلام والمواجع ، وتجويفها بالجمود والتقليد النقلي والركود.
لا ريب في أنّ التعاليم والأوامر والنواهي الالهية التي وردت في القرآن الكريم تستهدف إصلاح حياة الإنسان حتى يكون الاستخلاف في الأرض صالحاً ونافعاً.. لأنّ الذين يرثون الأرض من بعد الله، هم عباده الذين يسهمون في العمل الصالح ومنع منكرات الفقر والمرض والتخلف والعزلة والاستبداد من خلال تطوير الفكر السياسي والحقوقي وأنظمة الحكم، وتحديث أنماط ومستويات الحياة الإنسانية بأعمالهم التي تنفع الناس على الأرض في مختلف مجالات البحوث والاكتشافات والاختراعات العلمية والانتاج الصناعي والزراعي وخدمات الكهرباء والمياه والاتصالات والنقل البري والبحري والجوي، وعلوم الذرة والهندسة البيولوجية والفيزيائية والفلك والجيولوجيا والعمران والطب، وإستخراج الثروات الطبيعية والخيرات المادية والغذائية من باطن الأرض والبحر.. ومن الأسماك والحيوان والنبات لأن الذين يقومون بهذه الأعمال عن علم وخبرة ومعرفة هم الذين يخشون الله وهم الذين سيزيدهم الله علماً، بحسب ما جاء في القرآن الكريم.. وقد وعد الله كل الذين سيقومون بهذه الأعمال الصالحة في الحياة، من الرجال والنساء ، ومن كل أتباع الأديان السماوية ، بما يستحقونه من جزاء على تلك العلوم والأعمال التي تدخل ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بحسب وعد الله القائل: (انّ الّذِينَ آمَنُو والّذِينَ هادُوا والنّصَارى والصّابِئينَ مَنْ آمَنَ باللهِ واليَوم ِ الآخَرِ وعَملَ صالِحا ً فلهُمْ أجْرُهُمْ عِندَ ربِّهمْ ولا خَوفَ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُونْ) (البقرة 62)
وبالنظر إلى أنّ القرآن لم يحدد شكلاً لنظام الحكم أو الدولة التي يعيش فيها المسلمون، فالغاية الأسمى لدين الله هي الإنسان في كل بقاع الأرض، ومن غير المعقول أنْ تحتكر جماعة أو عُصبة معينة حق وواجب الإشراف على حياة الإنسان من خلال الأوامر والنواهي.. بمعنى أنّ كلا ً من الدولة والحكومة والسلطة التشريعية والأجهزة الحكومية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الاقتصادية تعد أمة معنية بذلك التكليف، وفي نطاق اختصاص كل منها.
وبوسع كل من يراجع البرامج الانتخابية المتنافسة في الانتخابات ملاحظة أنّها تمثل قوى وجماعات منظمة تتبارى على الوعد بالعمل من أجل تقديم أفضل الأعمال الصالحة والنافعة التي تجعل حياة الإنسان حرة وكريمة وآمنة وخالية من كل صور الظلم والتخلف والفقر والفساد في إطار دولة مدنية يتوافر فيها أفضل قدر من المبادئ والقيم والحقوق والواجبات التي تضمنتها الأوامر والنواهي الإلهية الواردة في القرآن الكريم..والثابت أنّ الإسلام دشن عملية بناء أول مجتمع مدني مسلم خلال العهد النبوي الذي أنشأ نظام حياة للناس يشبه نظام دولة المدينة عند الإغريق، غير أنّها كانت حياة ذات طبيعة انسانية متميزة، وقد تغير شكل هذا النظام بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلّم) وانتشار الفتوحات، حيث نشأت دولة ملكية وراثية ذات طبيعة إمبراطورية بدءاً بالعهد الأموي، ومروراً بالعهد العباسي، وانتهاءً بالعهد العثماني الذي انتهى بعده شكل الدولة الإمبراطوري، الذي كانت السلطة فيه محصورة بين مؤسسة ولاة الأمر الملكية الوراثية، ومؤسسة رجال الدين الكهنوتية.
ومن نافل القول إن الولاء في تلك العهود كان للدين والمذهب السائد وليس للوطن والدستور النافذ -كما هو الحال عليه الآن-، فيما أصبحت الدولة الحديثة قائمة على التمثيل الوطني لكل قوى وفئات المجتمع من مختلف العقائد والمذاهب والأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والفاعليات الاقتصادية والاجتماعية بمن فيها العمال والمزارعون والحرفيون الذين كانوا يتعرضون للتحقير والتهميش في الدولة الدينية، الأمر الذي أفسح المجال لظهور أشكال متنوعة للمشاركة في إدارة شؤون الدولة من خلال مؤسسات ذات طابع تمثيلي، وقد وصلت هذه المشاركة ذروتها بظهور نظم ديمقراطية حديثة تقوم على الانتخاب الحر و المباشر لهيئات الدولة عبر صناديق الاقتراع، والتداول السلمي للسلطة بين أحزاب ومشاريع وبرامج متنافسة، تسندها منظومة متكاملة من الحقوق والحريات المدنية والسياسية التي أعطت مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أبعاداً عميقة ومتجددة في ضوء تعاليم القرآن الكريم التي تصلح لكل زمان ومكان.
ولدى قيامي بمراجعة عدد من التوجيهات الصادرة عن فخامة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بما فيها قرارات صدرت عن مجلس النواب ومجلس الوزراء، بالإضافة إلى بيانات صادرة عن أحزاب ((المعارضة)) ومنظمات المجتمع المدني، وجميعها تتعلق باحتياجات ومشاكل المواطنين في مختلف مجالات حياتهم. لاحظت أنها تنظوي على أوامر بالمعروف ونواه عن المنكر، كما يراها القرآن الكريم وليس كما يراها المغرضون لأهداف حزبية وسياسية.. وهو ما سأتناوله في العدد القادم.
[email protected]