د. طارق المنصوب -
ليست العبرة بنوعية الأداة أو الوسيلة التي نستخدمها في حياتنا اليومية لتحقيق غايات فردية أو جماعية محددة ومقصودة بذاتها أو عفوية، وأياً كان نوع تلك الأداة أو مصدرها، بل العبرة بالذات أو اليد التي تستخدمها، والغاية التي تسخر من أجلها تلك الأداة أو الوسيلة، والنتائج التي تنتج عن تلك الممارسات سواء بالسلب أم بالإيجاب. وهذا الأمر ينطبق على كل ما قد نصادفه في حياتنا من أمور، فليس هناك شر محض، أو خير خالص بطبيعته وبذاته. ويصدق هذا القول بصورة خاصة على كافة الوسائل التي ابتكرها الإنسان لتحقيق غاياته وأهدافه ومقاصده في مناحي الحياة المختلفة وفي شتى الميادين والمجالات. حتى أنه بات من المؤكد القول: إن الإنسان هو منبع كل الخير، وهو كذلك مصدر كل الشر الموجود على هذه الأرض.
والشواهد الحياتية والأحداث التي تؤيد صحة ما ذهبنا إليه أكثر من أن نعدها أو نحصيها، ويكفي التدليل على ذلك بذكر أمثلة من الحياة اليومية؛ فالعقل أو العلم البشري الذي وهبه الله للإنسان وجعله وسيلته للسيطرة على الطبيعة وسبر أغوارها وتذليلها لمصلحته والاستفادة من خيراتها، يمكن أن يسخر من أجل جلب الخير والمصالح له ولباقي أفراد المجتمع، ومن أجل تسهيل سبل العيش بابتكار الآلات والماكينات والمصانع وجميع أنواع الاختراعات التي تستخدم لأغراض سلمية نافعة لبني البشر، كما يمكن أن يستغله الإنسان لإحداث الخراب وجلب الدمار والكوارث لنفسه ولبني جنسه باختراع الديناميت والقنابل والصواريخ العابرة القارات والرؤوس النووية التي تكفي لتدمير وإبادة البشرية واستحالة الحياة على الأرض لملايين السنوات الضوئية القادمة. ونفس الشيء يمكن توقعه مع كل اختراع أو ابتكار لبني البشر، فمن الممكن أن تستخدم لأغراض آمنة وسلمية وإيجابية، كما أنها قد تستخدم لأغراض خبيثة وسلبية وخطرة. فالإنترنت ووسائل الاتصال الرقمي الحديثة، والستالايت والكمبيوتر وغيرها من الابتكارات الحديثة يمكن أن تستخدم بشكلٍ سلبي أو إيجابي.
والمال الذي اخترعه الإنسان من أجل تسهيل عملية البيع والشراء، واستعاض به عن عملية المقايضة أو تبادل السلع، واخترع له أشكالاً كثيرة منها: الشيك والكمبيالة و الحوالة البنكية وغيرها، من أجل تسهيل عملية انتقال رؤوس الأموال والسلع بين الدول والمجتمعات، هذه الوسيلة يمكن أن تخدم أغراضاً شريفة وخيرة يقوم بها الإنسان عبر تقديم العون ومد يد المساعدة والإنفاق على اليتامى والمحتاجين والمعوزين وفي كافة أوجه الخير الممكنة وهي أكثر من أن نحصيها، وكذا في الاستثمار وإنعاش الاقتصاد الوطني وغيرها من المشاريع الإيجابية والخيرة التي تفيد المرء وتفيد أفراد مجتمعه في الوقت نفسه، كما يمكن أن تظهر له استخدامات سلبية عبر شراء أصوات الناخبين وإفساد الذمم بتقديم الرشى من أجل تغيير الوقائع وقلب الحقائق، وشراء المخدرات والسلاح وغيرها من مظاهر البذخ والإنفاق السلبية العديدة التي بدأت تجتاح مجتمعاتنا في الآونة الأخيرة.
وقل ذات الشيء عن القانون الذي اخترعه بنو البشر لتحقيق الاستقرار داخل المجتمعات الواسعة، ومنع الاعتداءات فيما بينهم نتيجة تباين المصالح والأهداف والطموحات، ومن أجل ضمان جلب المصالح لجميع أفراد المجتمع، وحماية الحقوق وضمان الحريات وعدم الاعتداء عليها أو انتهاكها، حتى بات ضرورة في مجتمعاتنا المعاصرة لا يمكن تصور وجود مجتمع من المجتمعات دون أن يكون القانون الحصن الذي يلجأ إليه المظلوم طلباً للعدالة وإحقاقاً للحق والنصرة، هذه الوسيلة يمكن أن تكون نافعة إذا استعلمت لذات الغاية التي وجدت من أجلها، وإذا بات بإمكان الضعيف أن ينال حقه من القوي والاقتصاص من المعتدي، وهذا الأمر رهين بوجود سلطة قضائية عادلة تقضي بحكم القانون وتنفذ بنوده دون تعسف أو سوء تفسير. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يكون القانون وسيلة من أجل الابتزاز والابتذال وسلب الحقوق ونصرة الظالم على المظلوم إذا وجد القاضي والقضاء الفاسد والمسئول المنافق. وحتى لا نذهب بعيداً في تصورنا لإمكانيات القانون وحدوده، نؤكد أن القانون لا يمكن أن يكون مصدراً بذاته لكل ما ذكرنا، لكنه الإنسان مصدر كل تلك المساوئ، إذا تجرد عن إنسانيته وتخلى عن مبادئه وتنصل عن قناعاته، واتبع شهواته وأطماعه، وآثر جلب مصالحه الشخصية أو الفئوية أو المناطقية.
والشيء ذاته ينطبق على السياسات، والأحزاب السياسية، والحكومات، والقضاء، ومجالس النواب، والانتخابات، والجامعات ومراكز البحث العلمي، والمسارح، والمدارس، بل وحتى عن اللغة والخطاب، وغيرها من وسائل التعبير التي استحدثتها المجتمعات البشرية لخدمة أغراض وأهداف محددة، فهي مجموعة من الوسائل التي وضعت لتحقيق غايات نبيلة وأهداف إيجابية تخدم تلك المجتمعات، وربما تتحول إلى أدوات لمنع تحقيق تلك الغايات وإعاقة تقدم تلك المجتمعات .. ويبقى الإنسان العنصر المشترك بين تلك الأمور كافة؛ فهو الذي يصبغها بصبغة الخير أو الشر. وبهذا يتأكد لنا جميعاً أن كثيراً من مجتمعاتنا اليوم تعيش أزمة عميقة مظاهرها تتجلى واضحة في تفشي جوانب السلب في كافة مناحي الحياة، وتحول الأدوات والوسائل التي ابتكرها الإنسان من أجل سعادته ورخائه وأمنه وحصوله على حقوقه إلى وسائل سلب وقلق وتعاسة وهدر للحقوق وتغييب للمصالح الجماعية.
في واحدة من أغاني (أيوب طارش عبسي) الوطنية، ترد هذه الأبيات التي تلخص بروعتها ما سبق أن أوردناه؛ حيث يقول:
قدري دوماً يداً تبني غداً ... ويداً تحرس مجد الوطن
معولي قاسم سيفي عشقه ... نصرة الحق وخير اليمن
فالمعول = أداة بناء وتشييد وإعمار، يمكن أن يكون أداة هدم وتخريب وتقويض لأسس كل بناء مهما كان متيناً. والسيف (أو السلاح) = أداة حرب وخراب وقتل وتدمير وتشريد، كما أنها أداة دفاع عن الحياض وعن الشرف وحراسة مقدساتنا وثوابتنا، وهذا ما أكد عليه الشاعر في الأبيات الماضية، والفرق هو في اليد أو الإنسان الذي سيستخدم تلك الأداة، والغاية التي سيسخرها من أجلها. ليبقى الإنسان - كما أشرنا في بداية تناولتنا - مصدراً لكل الخير أو الشر في كل الظروف والأزمان. ولتبقى معركتنا في قابل الأيام مع الإنسان من أجل إعادته إلى جادة الصواب، فهل سنفلح في كسب هذا التحدي؟ سؤال يحتاج منا إلى تفكير عميق قبل الإجابة.