د. عبدالرحمن الشامي -
انتهت محنة «صعدة» إلى غير رجعة إن شاء الله، وعاد أعضاء أحزاب اللقاء المشترك إلى قبة البرلمان، بعد أن توصلت أحزابهم إلى اتفاق مع المؤتمر الشعبي العام بشأن الانتخابات القادمة، ومن ثم تبدو الساحة اليمنية اليوم تنعم بشيء من الهدوء والوئام، نسأل الله أن يديمهما علينا وعلى بلادنا، ولا ينغص هذا غير الممارسات المرجفة التي تتم هنا وهناك، ولا يقلقها غير من همهم إقلال مضاجعنا، وترويع أمننا في بلادنا، والأولى تبقى ممارسات فردية، لا تختص بها الساحة اليمنية فحسب، وإنما تشترك معها في هذا الابتلاء كثير من دول العالم الأخرى.
ليست هاتان القضيتان فقط هما ما شغلت الرأي العام اليمني إبان هذا العام، ونالت الاهتمام الخارجي، بل هناك غيرهما الكثير من حادثات الليالي والأيام، منذ الانتخابات الأخيرة وبعدها، وفي حقبة التسعينيات وما قبلها، فنحن بالديمقراطية نتصارع، وبدونها نتصارع أيضاً. وليس الصراع الذي أعنيه هنا، ذلك النتاج الطبيعي للحياة، على اعتبار الكد والكدح الأزلي الذي حكم الله به على هذا الإنسان، منذ أن أوجده في هذه الدنيا، ويخوضه في دورة حياته الكاملة، صبياً وشاباً وشيخاً وكهلاً، ولكنه نوع آخر من كسب اليد، يضيف إلى مصاعب الحياة الطبيعية مصاعب أخرى إضافية، فتبدو المعاناة مضاعفة، ونبدو نحن معها مطالبين ببذل الجهد مضاعفا، حدا تنوء بحمله الكواهل في بعض الأحيان.
في وسط هذه الصورة التي لا تسعى إلى تصوير الواقع على نحو تراجيدي، ولا تعمد إلى بث الإحباط في النفوس- في وسط هذا تبدو اليمن، ونحن معها، كمسافر أعياه طول السفر، وأرهقته وعورة الطرق، ومن ثم فهو في حاجة إلى الخلود إلى شيء من الراحة، يلتقط معها أنفاسه، ليعاود مواصلة المسيرة التي لا مفر من خوضها. فهذه هي الحياة، كما أرادتها المشيئة الإلهية، ومن ثم فإن السؤال الذي يبرز اليوم، يتعلق ب: ما الذي يحتاجه اليمن من بيئته الداخلية ومن محيطه الخارجي؟
لنبدأ بشيء عن صحافتنا بشتى تجلياتها الورقية والإلكترونية، وبمختلف ألوان طيفها. فهذه الصحافة يناط بها، من خلال ممارساتها المهنية، أو الممتَهَنَة، إما تنوير الرأي العام أو تدميره، وصناعة رأي عام سليم أو مشوه، وخطورة هذه التوجهات تتمثل في العواقب المترتبة على الممارسة الضارة. ففي الحالة الأولى، يلتف الناس حول قضاياهم الأساسية، وتتوحد جهودهم صوب البناء، ومناصرة كل ما يعززه، على عكس الاتجاه الثاني الذي يقسم الناس ما بين مناوئين وساخطين، أو مستكينين خاملين، غير مبالين بشيء مما يدور حولهم، فتتشتت الجهود حينها، وتتفتت القدرات ساعتها، والنتيجة هي قلة البٌنَاة، فيبدو الوطن وقضاياه الأساسية بمثابة مهمة تناط بأطراف محددة، في حين تغيب الشراكة المجتمعية الفاعلة التي تعتمد عليها نهضة البلدان، ويسهم فيها الجميع من مختلف مواقعهم، وتصل ذروتها حين تسود فضيلة الإيثار، فيجود من عنده من الناس فضل زاد وظهر، على من لا زاد له ولا ظهر.
عدد من هذه الصحف ومواقع الأخبار الالكترونية، تطالعنا ما بين آونة وأخرى بتقارير دولية عن اليمن، منها ما هو غاية في السلبية، كتلك التي تنذر بالفشل، وتبشر بالسقوط..وغيرها. وبصرف النظر عن حالة الانتقائية الشديدة، ودأب البحث عن هذه التقارير، والتي تشبه من يبحث عن إبرة في ركام رملية، وحالة «الترصد» التي تبدو عليها بعض هذه الصحف والمواقع، على غرار بعض المراكز الصحية المتخصصة في متابعة الأوبئة والأمراض، مع اختلاف الغايات، فهذه المراكز تسعى إلى التصدي للأوبئة والأمراض، وحصرها في نطاق ضيق، في حين تسعى هذه الصحافة إلى النشر على نطاق واسع، لأغراض دعائية، تتجاوز وظائف الإعلام، بدليل أنها لا تتحرى كثيرا في مصادر هذه التقارير، ولا تعبئ في تميز الموثوق فيها من غيره.
ليس هذا تهويناً من شأن هذه التقارير، ولا تذمراً منها، ولا من نقلها في صحافتنا المحلية، فتشكر هذه المراكز على اهتمامها باليمن، ورصد ما يجري فيه، والكتابة عنه للرأي العام العالمي، متى كانت هذه المراكز ذات استقلالية كاملة، وليس لديها أجندة خفية، ولا أغراض لها غير نشر المعرفة الصحيحة، المعتمدة على الأدلة، والتحليل السياسي الدقيق. ولكن المشكلة تتمثل في أن اليمن لا يحتاج من هذه المراكز إلى إبراز مساوئه فحسب للرأي العام الخارجي، بل يحتاج في المقابل إلى إبراز إيجابياته، أو بعضها على الأقل، حتى لا يشعر الناس في الداخل والخارج بأننا نحرث في بحر. كما أننا لا نحتاج من صحافتنا المحلية مجرد اجترار هذه التقارير، بغثها ونفيسها، بل إلى إعمال العقل والمنطق فيها، فمهما كان تخصص هذه التقارير ف»أهل مكة أدرى بشعابها»، وإن لم نكن كذلك فإما أننا لسنا من أهل «مكة»، أو ليس لدينا المعرفة الكافية بشعابها. أدلل على ما سبق بتقرير يصدر عن مؤسسة متخصصة، تتمتع بسمعة علمية عالمية، هذه المؤسسة تردد في تقريرها الصادر في عام 2008 ما قالته في تقرير مشابه في عام 2005 من مصطلحات على غرار «السقوط»، و» الفشل» وغيرها.
اليمن تنتظر من المجتمع الدولي، بموجب هذه التقارير وغيرها، الوقوف إلى جانبه في خوضه لتحديات جسيمة، بعضها وليد صراعات القوى العظمى والإقليمية، وآخر بفعل تراكمات تاريخية، ولا نبرئ أيدينا جميعا من تحمل الوزر الأكبر فيها.
أما على صعيد البيئة المحلية، فإننا مدعوون على الأقل إلى استيعاب الدروس المستفادة في ضوء الحوادث الماثلة أمامنا، وأولها أحداث «صعدة» التي كلفت البلاد الكثير أثناء خوض المواجهة العسكرية المحتومة، وبعد انتهائها لإعادة العمران التي بدأت خطاه اليوم، وإصلاح ما دمرته الحرب، وقبلها حرب الانفصال التي كلفتنا 11 ملياراً من الدولارات، وهو مبلغ ليس بالقليل، يزيد عن حجم الدين الخارجي لليمن، وجدير به أن ينشر العمران في ربوع البلاد، لو أنه استخدم في ميادين التنمية المختلفة.
لنترك جانباً أقاويل الوشاة، ومجاملات المحبين، ولنستحث اليمني الساكن في داخل كل واحد منا، لممارسة وقفة مسؤولة أمام وطننا في حاضره ومستقبله، وفي ظل فهم مستنير لديننا الذي يدعو إلى الوحدة، ويحث على البناء، وينهي عن الفرقة والتشتت والتخريب والتدمير، فغيرنا هم من «يخربون بيوتهم بأيديهم»، ونستعيذ بالله أن نكون ممن «ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً».