الخميس, 21-أغسطس-2008
الميثاق نت -                       حسن العديني -





تمثل الحرب الروسية- الجورجية علامة ذات مغزى، وربما أنها إضاءة موحية بتبدلات عميقة في المحيط الدولي على طريق يفضي إلى ولادة نظام كوني جديد تتعدد فيه الأقطاب على نادي القمة مع بقاء الولايات المتحدة في المركز الأول.
الواضح من البداية أن جورجيا لم تقدم على احتلال «أستينيا الجنوبية» من غير أن تتلقى إشارة خضراء من واشنطن والغرض وضع روسيا أمام خيارين كلاهما أصعب من الآخر.

إما تكبيلها بعد أن أخذت تخطو بثبات ومن جديد على المسرح الدولي وإلجام صوتها الذي أخذ يرتفع شيئاً فشيئا. وإما جرها إلى حرب باردة جديدة ليست مستعدة لها ولا هي تريدها.

وقد فهمت روسيا بسرعة، ولعلها كانت تنتظر مثل هذه المغامرة من قبل فتصرفت بلا تردد.

تصرفت وهي عارفة أن لديها ما يكفي لحماية أمنها القومي ويدفع عنها تبعات الدخول في سباق تسليح يرهق اقتصادها. وليس في هذا ما يعني أن روسيا كفت عن تطوير وتحديث أسلحتها التقليدية وغير التقليدية.

على أي حال فإن لرد الفعل الروسي السريع والحاسم دلالته، وهي أن الدب وإن خلع جلده الأحمر لن يقبل الحصار داخل حديقة مغلقة، وهذه الحرب المحدودة بداية تحول سيرى العالم آثاره بعد حين.

نعرف أن الحروب الكبيرة لا تحسب بمعركة واحدة. هناك في النهاية معركة فاصلة ونهائية ولكن هناك دائماً الكثير من المعارك المهمة تسبقها وترسم طريق النصر أو تحدد بداية الهزيمة.

والتأريخ أصدق شاهد. ففي الحرب العالمية الثانية فتح أجنباز خط ماجينو على حدود فرنسا طريق الجيش الألماني لاحتلال وسط وشمال وغرب أوروبا.

كمان أن انتصار الحلفاء لم يصنعه عبور قواتهم بحر المانش الى البر الأوروبي في «النور ماندي» لقد لاحت علامات التغير في موازين القوى بصمود «ستالينجراد» في الشرق ثم الالتفاف الروسي على القوات الألمانية من القوقاز وملاحقتها بعد ذلك الى العاصمة برلين.

وكان انتصار مونتجمري في العلمين محطة رئيسية في الطريق الى حسم الحر ب على الناحية الغربية. فضلاً عن الضربات التي أنزلتها المقاومة بالألمان في كل من يوغسلافيا وفرنسا ودول أوروبا الشرقية.

الآن يؤرخ لنهاية الحرب الباردة بتكسير سور برلين وما تلاه من انفراط المنظومة الاشتراكية وتفكيك الاتحاد السوفيتي. إلا أن هذا مثل في واقع الأمر نتيجة طبيعية لسلسلة هزائم مني بها السوفيت. فمن منتصف ستينيات القرن الماضي بدأ نجاح الضربات الأمريكية يتحقق على الأطراف، بزعزعة حركات التحرر الوطني ومحاصرة واسقاط العديد من الأنظمة الوطنية عبر انقلابات نفذتها وكالة الاستخبارات الأمريكية. وحيث فشلت المؤامرات الانقلابية خنق الأمريكيون الحكومات الوطنية بالحصار الاقتصادي وبحروب شنتها دول حليفة بالوكالة أو بالسلاحين معاً كما جرى مع مصر.

وفي السبعينيات انسحب الاتحاد السوفيتي من أفريقيا. ومع ذلك لم يقم بوقفة مراجعة لمسار الحرب الباردة. على العكس قام بقفزة مجنونة ومميتة الى أفغانستان.

إذن هناك دائماً في مجريات الحروب الكبيرة محطات ومعالم، وهناك علامات تكشف، وبوارق تلمع.


< < <
على إثر انتهاء الحرب الباردة خطت الولايات المتحدة خطوة واسعة للجلوس فوق بحيرات النفط في الخليج والقوقاز.

وفي حربها الأولى على العراق وقف رئيسها الأسبق جورج بوش يبشر بنظام عالمي جديد. وتسابق المفكرون في أمريكا وفي الغرب عامة يتحدثون عن فضائل النظام الرأسمالي فخلعوا عليه أقدس الصفات واعتبره بعضهم الحلقة الأخيرة في سلسلة الأنظمة الاقتصادية التي تعاقبت على البشرية منذ وضع الإنسان قدمه على سلم الحضارة. وقال مفكر أمريكي (فوكويو هاما) بأن التاريخ وصل معه إلى نهايته، فهو الأبدي الخالد والقادر على الدوام على تصحيح أي اختلالات تنشأ ومعالجة أية مشاكل تُجد. ولم يصدق الكثير من المفكرين والمحللين الذين انتقدوا خرافة النظام الجديد وأكدوا أن ما يمر به العالم هي حالة فوضى وسيولة، وأنه على الأرجح يتخبط فوق أنقاض نظام القطبية الثنائية ويتحسس طريقه لبناء نظام بديل. ولم يتردد الأمريكيون عن الاعتراف، فقالوا: إنها الفوضى الخلاقة.

ولأن الفوضى تدمر ولا تخلق، فإن الأمريكيين لم يتركوا الروس في سبيلهم. ذهبت الولايات المتحدة إلى التخريب داخل روسيا فدعمت عصابات المافيا لنخر عظام الاقتصاد. وفي الوقت نفسه اتجهت الى البلقان لاستدعاء الاختلافات العرقية والدينية وتمزيق يوغسلافيا السابقة كي تقيم دويلات هشة أعادت المنطقة الى حال أسوأ بكثير مما كان عليه قبل مجيء «تيتو» أحد أبطال الحرب ضد النازية وثالث ثلاثة هم ألمع قادة حركة عدم الانحياز.

في مرحلة الفوضى اختلطت روائح البارود بدخان الحرائق، وتداخلت أصوات الرعود القاصفة بالعواصف الهائجة، وغطى هذا الحريق على الأرض والضجيج في السماء الساحة الممتدة من غرب أفريقيا إلى وسط آسيا مروراً بالبلقان.

لكن بعض البوارق لمعت من أماكن أخرى وبعض الأضواء ومضت وأشعت.

بدت الصين تتحرك بهدوء صعوداً نحو نادي القمة بدأ اليسار في أمريكا اللاتينية يشق طريقه الى الواجهة.

ثم أخذ الشحوب يتلاشى من وجه روسيا ويشع منه الضوء. إنها تستعيد عافيتها وتلملم جراحها.

والحق أن روسيا دولة عظمى في أوروبا قبل أن تولد أمريكا وقبل أن تحمل عن البشرية عبء الدفاع عن المقهورين والمعذبين في الأرض.


< < <
لا سبيل إلى إنكار الإضافة الخلاقة التي منحتها لروسيا الثورة البلشفية وشخصية ستالين الأسطورية ولكن دون أن ننسى أن أكثرها انتزع من المخزون الروسي نفسه. وما فعله لينين وستالين ورفاقهما أنهم وحدوا شعوبها تحت راية فكر خلاق، فانبعث العملاق الذي هزم النازية وساند حركات التحرير ومنع الغول الامبريالي من ابتلاع الشعوب لأربعة عقود ونيف.

وإذ هُزم النظام السياسي والاقتصادي الذي بنى صرحه البلاشفة وانسلخت دول من جسد المارد الاشتراكي الجبار فقد بقيت الجغرافيا والتاريخ الروسيان وبقي الشعب الروسي المعروف بصلابته وكبريائه الوطني.

هكذا عادت روسيا فتية بعد أن تخلصت من حقبة «يلتسين» الموصومة بالفوضى والنهب المنظم للثروة وبالتدمير المتعمد للاقتصاد.


< < <
عليَّ قبل أن أتابع التذكير بأن الدول التي استقلت عن روسيا لم تنضم إليها بعد الثورة البلشفية. فقد كانت جزءاً من روسيا القيصرية التصقت بها في أزمان متباعدة باستثناء الدويلات الثلاث الصغيرة الواقعة على بحر البلطيق (ليتوانيا واستوانيا ولاتفيا) التي ضمها ستالين إلى امبراطوريته غداة الحرب العالمية الثانية.

ستالين نفسه ليس روسياً بل فقير من جورجيا التحق مناضلاً في الحزب الديمقراطي الاجتماعي الروسي، الذي انقسم في 1905م إلى بلاشفة (أكثرية) بزعامة الشاب لينين ومناشفة «أقلية» ظلوا في عهدة زعيمهم القديم «بليخانوف».


< < <
أعود الى الحرب بين روسيا وجورجيا، وهي فيما أعتقد معطى استثنائي يمكن الاستناد عليه بين معطيات كثيرة لبناء تصورات حول التغيرات المحتملة في العلاقات الدولية. لكن سبق وقلت أن بعض المعارك هي بروق وعلامات لا ترسم واقعاً ولا تصنع حقائق بقدر ما تشير وتنبه.

على أن من السابق لأوانه بناء تصورات لما ستسير إليه الأمور في المستقبل قبل أن يتضح جزءٌ من الصورة في ضوء ترتيبات ما بعد الحرب خصوصاً في منطقتي القوقاز وشرق أوروبا.

تنبع أهمية ماحدث من أن روسيا مارست القوة لأول مرة خارج حدودها في تحد صارخ للولايات المتحدة.

من قبل خرجت الجيوش السوفيتية للقتال خارج أراضيها. وكان هذا مطلوباً في الحرب العالمية لأنها تكفلت بهزيمة ألمانيا نيابة عن الغرب.

ثم خرجت رغم أنف أمريكا وحلفائها مرات أخرى، ففي 1956م احتل السوفيت العاصمة المجرية بودابست وأسقطوا قيادة الحزب الشيوعي المتمرد على قيادة موسكو ونصبوا مكانها قيادة موالية. وفي 1968 فعلوا الشيء نفسه في العاصمة التشيكية براغ. وفي الحالتين أنجز الجيش السوفيتي مهمته بسرعة وقفل عائداً إلى بلاده. وكانت الخطوتان هناك وهنالك محسوبتين من الناحية السياسية والعسكرية وحتى من الناحية الأخلاقية بدأ الأمر مقبولاً من كثيرين، ففي ظل الحرب الباردة حيث يتصارع معسكران دوليان ما كان بمقدور الاتحاد السوفيتي التخلي عن دولة واقعة في نطاق معسكره بموجب الترتيبات المفروضة بقوة الأمر الواقع عند نهاية الحرب العالمية. ولم تمتلك الولايات المتحدة وحلفاؤها من الوسائل سوى الإدانة السياسية والتحريض الاعلامي.

في 1979م وقعت المغامرة القاتلة بسبب سوء تقدير القيادة في موسكو، فقد دفعت بجيوشها لإسناد نظام ماركسي منقسم على نفسه ومعزول من شعبه. وزاد على ذلك أن أفغانستان لم تكن داخل الجدار المحيط بالكتلة الاشتراكية. كان الطريق مفتوحاً أمام تدخل أمريكي سافر ومكشوف، فاستنجدت بالاسلام وأجابها أدعياؤه عارفين ما تريد؛ قاصدين نصيباً من أموال ستتدفق من دول النفط وتجارة المخدرات وخزائن الكنيسة.

أرسلت الولايات المتحدة الأسلحة والمدربين، ومثلها فعلت إسرائيل، وعبأت الأنظمة والأحزاب الموالية لأمريكا الشباب. واجتمع زعماء الكنيسة ورجال الدين المسلمين فوق الأراضي الأفغانية وهتفوا سوياً وبصوت واحد بحياة الإسلام وسقوط الشيوعية، وسارت الحوادث على النحو المعروف إلى أن خرج الإتحاد السوفيتي بجناح مهيض وكبرياء جريحة.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي خاض جيش روسيا حرباً في الشيشان ووافق الغرب وسكت وربما شجع. ولم يكن السبب أن الحرب تدور على الأرض الروسية، وإنما لانها شهادة أخرى على انتشار رقعة الارهاب واتساع الجبهة المعادية له. وأهم منه؛ فهي حرب مطلوبة لتضخيم النزيف المتدفق من روسيا المتعبة لكي لا تنهض من جديد.

الآن تجرأت روسيا وخرجت لشن حرب ناجحة وسريعة. فما الذي يعنيه ذلك؟

المعنى الأول أنها لن تتخلى عن دولة حليفة لها مهما صغرت، وتتركها لمخلب القط أمريكي.

والمعنى الثاني أنها لن تسمح بإبادة رعاياها الموزعين في الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي.

والمعنى الثالث أنها وجهت رسالة لجميع الدول التي انفصلت عنها وارتبطت بها برباط كومنولث (رابطة الدول المستقلة) بألاَّ تتمادى، خصوصاً أوكرانيا وأذربيجان وكازاخستان - وجورجيا بالطبع- اللاتي يسعين إلى الانضمام لحلف الناتو.

وأخيراً فهي تقول لأمريكا بأصوات المدافع إنها لن تفرط بمجال أمنها القومي.

لقد تمدد حلف الناتو شرقاً ووصل الى حدود روسيا، ولكن محاولة الالتفاف عليها بطوق كامل أمر يصعب قبوله. ومع ذلك فإن دول الناتو عازمة ومصممة، ولكن روسيا بعمقها الجغرافي والاستراتيجي قادرة على حماية أمنها القومي، غير أنها لن تخاطر بالدخول في سباق تسلح يستنزف مواردها. فلديها من القوة ومن الوسائل ما يحميها ويردع الطامحين الى إضعافها.

والأرجح أن موسكو ستركز في المستقبل على متابعة بناء اقتصادها، وستعمل على التنسيق مع القوى الجديدة الصاعدة لتشكيل جبهة ليست معلنة بالضرورة للتصدي للخطر الأمريكي، فهناك الصين وهي عملاق قادم يعيش قلق انفصال تايوان المسنود من الولايات المتحدة ويواجه ضغوطاً سياسية ومحاولة تقزيم لاقتصادها ومكانتها على الخريطة الدولية.

هناك إيران المتمردة على النفوذ الأميركي.

كما أن الهند قوة اقتصادية ناشئة ربطتها بروسيا علاقة تعاون طويلة خلال النصف الثاني من القرن المنصرم.

وفي نهاية الأمر فإن أمريكا لا تتحمل، مهما بلغت قوتها الاقتصادية والعسكرية عبء معارك تخوضها على جبهات كثيرة وبعيدة لأن طول خطوط الامداد يرهق ويكلف. ثم إن رعونة السياسة الأمريكية ستحرمها من كثير من مصادر القوة. وأن تمضي وحدها في ميدان السباق فإن جوادها سيناله الإرهاق بينما ترتاح الأحصنة الأخرى حتى إذا ما كتب عليها أن تخوض السباق ستكون في عنفوانها أمام خصم لاهث الانفاس، منهك القوى.

لقد وضع الدب الروسي قدميه على المسرح الدولي، ومن الصعب عليه العودة إلى الحظيرة، لأن الخيار بين الموت با لخنق والموت في ساحة المعركة ليس مطروحاً في بلد هزم أكبر قائدين احتلا أوروبا في التاريخ الحديث.. نابليون بونابرت وأدولف هتلر.

إن ما قامت به روسيا مجرد وثبة صغيرة لحقتها عودة سريعة. ومازال هناك وقت حتى يتحر ك الدب الروسي دون رجعة.. هو الآن يتمطى ويحرك عضلاته حتى يستعيد لياقته.

وعندئذ سنرى.

*عن"الاسبوع"
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:13 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-7851.htm