د. طارق المنصوب -
بالرغم من علامات الحزن التي انتابت كثير من مشجعي منتخبنا الوطني للناشئين، فإن الحقيقة التي لا يجب أن تغيب عن بالنا أن فريقنا الأحمر الصغير صال وجال مع الكبار، وقارع العمالقة وهزمهم في لعبة كانوا يعتقدون أنهم تسيدوا الميدان فيها منذ فترة ليست بالقصيرة، وأغلب الظن أنهم اعتقدوا أن اللعب مع المنتخب اليمني بمثابة مران تقليدي أو حصة تدريبية روتينية لا أكثر ولا أقل. فإذا به يظهر مهاباً وعملاقاً يبتلع الأخضر واليابس، وإذا بأهدافه تغزو مرمى جميع المنتخبات دون تمييز .. وإذا بالرهبة تغزو قلوب منتخبات لم تقابل المنتخب اليمني، لكنها بدأت تعمل له ألف حساب خوفاً من أن تقابله في جولات قادمة .. لذا كانت الخطة البديلة معدة بتواطؤ جميع المنتخبات التي تجرعت الهزيمة ضده، والذريعة جاهزة .. أعمار أحد المشاركين أكبر مما يجب .. ولذا كان الإقصاء والخروج في قمة العطاء والتألق، وهذا الأمر كان أكثر إيلاماً مما لو خرج منتخبنا بعد أداء مخيب وباهت.
ربطتني علاقة قديمة برياضة كرة القدم، تعود إلى السنوات التي مارست فيها اللعبة ضمن ناشئي شعب إب «العنيد»، وفيه تدرجت ضمن مختلف الفئات العمرية وصولاً إلى التأهل للعب عدة مباريات ودية ضمن الفريق الأول صيف سنة 1987م، قبل أن أسافر إلى المغرب الشقيق لإكمال الدراسة الجامعية بعد أن حصلت على منحة دراسية دشنت بها علاقة جديدة وعشقاً جديداً مع دراسة القانون وعلم السياسة. من يومها تغيرت علاقتي مع الساحرة المستديرة؛ إذ بت على موعدٍ شبه دائم معها؛ لكن هذه المرة بصفتي متابعاً ومتفرجاً شغوفاً لأخبار مباريات كرة القدم عبر الصحف وشاشة التلفزيون، وبخاصة مباريات منتخباتنا وفرقنا الوطنية، ومتابعاً لأغلب دوريات كرة القدم المعروفة عربياً ودولياً، لأنني أعدها فسحة زمنية أحرص عليها بين الفينة والأخرى للترفيه عن النفس، وإبعاد ضغوط العمل عن كاهل مثقل بها. مثلما هو الحال مع هذه التناولة التي أرجو أن تكون فسحة للعقل من هموم السياسة والكتابة في شئونها.
ما أتذكره جيداً أن موضوع العلاقة بين السياسة والرياضة كان واحداً من الموضوعات التي طرحت علينا بصفتنا مرشحين جدد للدراسة في المدرسة الوطنية للإدارة العمومية، وطلب منا - حينذاك - كتابة تحليل علمي يتناول تلك العلاقة من جوانبها المختلفة، حتى يتم قبول أو رفض تسجيلنا في تلك السنة الجامعية. أيامها كنت أتابع قراءة الصحف التي تناقلت أنباءً متفرقة عن إجراء مباريات ودية ورسمية بين منتخبات لبلدان تعرف صراعاتٍ مسلحة وحروب عسكرية، شأن الجارتين العراق وإيران، وتصف النهايات السعيدة لتلك المباريات واحتضان اللاعبين لبعضهم البعض عقب إطلاق صفارة النهاية وتبادل التهاني والقبلات، وكأنهم ينتمون إلى فريق واحد .. وكيف أن الروح الرياضية العالية للاعبي الفرق المتبارية انتصرت على صراع السياسات وأطماع الجغرافية، وأزيز الرصاص، وأصوات المدافع، وفاقت سرعة الطائرات الحربية والصواريخ التي وصلت لتدك المنازل والعمارات والأحياء السكنية في عواصم البلدين الجارين، ولتلقي الرهبة والرعب والأذى النفسي الأكبر بنفوس الأبرياء من الجانبين، قبل أن تتوقف في صيف 1988م.
مثلت تلك الأخبار والتحليلات المقتضبة مادة علمية كافية لكل واحد منا للتعليق على العلاقة بين السياسة والرياضة، ومكنتنا من كتابة موضوعات متواضعة تصف تلك العلاقة في شقيها الإيجابي والسلبي. وأتذكر أن الخلاصة التي أنهيت بها تلك المحاولة الأولى في التحليل: أنهما (أي السياسة والرياضة) يقفان في بعض الأحيان على طرفي نقيض، عندما تتغلب السياسة على الروح الرياضية لدى الأفراد والجماعات البشرية، وعندما تبرز الصراعات وتسمو الضغائن والأحقاد البشرية على ما عداها من التصرفات الإنسانية المقبولة. كما أنهما قد يلتقيان عندما تتغلب الروح الرياضية عند الساسة على ما عداها، وتسمو السياسة عن كونها دسيسة أو خداع للآخرين، وتتحول إلى مثل وأخلاق مفروضة تسمو بروح ممارسها إلى مستوى يجعله يبحث عن المصلحة الوطنية أينما كانت ليحققها ولو من باب تشجيع الفرق والمنتخبات الوطنية ودعم المشاركات الرياضية الوطنية التي تمثل البلد في مختلف المحافل العربية والقارية والدولية.
ما يزعج في قصة خروج منتخبنا الوطني للناشئين من التصفيات المؤهلة لكأس العالم للناشئين، وبعدما كان متصدراً لمجموعته بمستوى أداء مشرف للغاية، هو إطلالة الوجه القبيح والسلبي لتلك العلاقة، وطغيان السياسة على الروح الرياضية، وتدخل النفوذ والمال لقلب حقائق ومحو نتائج، وإبعاد منتخب شهد العالم أنه كان بطلاً دون منازع لمجموعة من الكبار أو من ظلوا يتخيلون أنهم كذلك. أما الأمر الإيجابي بعد كل ما حدث، أن فاجعتنا في خروج منتخبنا الوطني وحدت مشاعر جميع اليمنيين، وطغت على كثير من الأحداث والأزمات السياسية التي شهدها مجتمعنا اليمني في الآونة الأخيرة، والشارع اليمني من أقصاه إلى أقصاه لم يكن له حديث إلا عن خروج المنتخب الوطني اليمني بعد فضيحة التآمر والتواطؤ المثيرة للريبة والشك. ليصدق القول: إن ما تفرقه السياسة قد تجمعه الرياضة. نتمنى جادين أن يتمتع جميع ممارسي السياسة عندنا بروح الرياضية، وأن يتقبلوا جميع نتائج الممارسة الديمقراطية بنفس تلك الروح.
- جامعة إب