الجمعة, 28-نوفمبر-2008
الميثاق نت -          محمد حسين العيدروس -
قيل أن أحد الصحفيين سأل الرئيس الأمريكي «ابراهام لينكولن» عن الديمقراطية الحقة، فأوجزها «لينكولن» ببضع كلمات تجاهلها الصحفي بعد أن وجدها لا تكفي حتى عنواناً لخبر، إذ قال «لينكولن» :«هي القادرة على الدخول لكل بيت»، غير أن الصحافي ما لبث أن جعل منها بعد بضع سنوات مادة لكتاب فكري مثير، بعد أن أدرك عمق المعني الذي قصده الرئيس «لينكولن»، والذي رغم انقضاء عقود على رحيله ما زالت قوى سياسية مختلفة في بلداننا - دول الديمقراطيات الناشئة - لم تستوعب بعد أن الرئيس «لينكولن» قصد السلوك الديمقراطي وليس بطاقات الانتماء الحزبي.
فالديمقراطية بمفهومها الحقيقي هي ليست سلعة نسهب في وصفها، أو أدعاء ملكيتها، وحتى احتكارها - كما هو حال بعض القوى السياسية في ساحتنا - بل هي مجموعة ممارسات إن لم تجد طريقها إلى التعاملات اليومية سقطت عنها الصفة، ولم يعد بوسع أي قوة الادعاء بأنها «ديمقراطية» فمن غير الممكن أن نسمي من لا يجيد الكتابة «خطاطاً» ومن يجهل بمداواة الناس «طبيباً» ولا من لا يؤمن بالحوار، ولا الانتخابات ويدعو للعنف نسميه «ديمقراطياً» طالما يفتقر للممارسة العملية التي تدل على كونه يحمل ثقافة ديمقراطية.
إن ما ذهب اليه الرئيس «لينكولن» من ديمقراطية تمارس على مستوى علاقة رب الأسرة مع ابنائه وزوجته داخل البيت، يكشف بجلاء حجم المساحة الشاسعة التي تفصل بعض القوى السياسية اليمنية عن الديمقراطية الحقيقية، في ظل غياب مثل هذه الديمقراطية داخل أطرها التنظيمية الحزبية الداخلية، ومن أفق ارتباطاتها مع القوى السياسية الأخرى على نفس الساحة الوطنية، وبالتالي فإن طبيعة الإشكاليات السياسية القائمة حالياً في الساحة الوطنية ما هي إلا نتاج تلك الهوة السحيقة في ثقافة تلك القوى التي أخفقت في استيعاب مناهج الديمقراطية والوعي بمسؤولياتها الوطنية.
فوجود طرف سياسي يصر على خرق الدستور وانتهاك قانون تنظيم المسيرات والتظاهرات ويفهم ذلك على أنه «حريات ديمقراطية» ويبيح لنفسه استخدام العنف لمنع مواطنين من الوصول إلى لجان القيد والتسجيل ويعد ذلك «ممارسة ديمقراطية» ويبرر لمن يطلق رصاصا أو يرمي بقنبلة على لجنة انتخابية، فإن الأمر بلا أدنى شك لا يمكن وصفه بأقل من «انقلاب كامل» على الديمقراطية، وجهل تام بأصغر أبجديات العمل السياسي الوطني التي يمكن أن نجدها لدى أي بلد معزول عن الاحتكاك الحضاري .. فليس على وجه الأرض من يتقبل منطق تسمية تفجير القنابل بـ «نضال سلمي» على غرار ما تتحدث به بعض القوى المعارضة لدينا التي تجمع «السلام» و«القنبلة» في سلة واحدة، ثم تطلب من الجميع تقبل الأمر بوصفه «ديمقراطية حقه» مماثلة لتلك التي تحدث عنها الرئيس «لينكولن» !!
ربما نقف جميعاً على خلاف مع كثير من الممارسات الديمقراطية لدى الولايات المتحدة أو دول أوروبا بحكم خصوصية تجربتنا اليمنية التي تؤطر نفسها بالتزامات عقائدية دينية، وجملة من القيم والأعراف والتقاليد والتراث الثقافي، غير أننا نتفق مع الجميع في المضمون الفلسفي للديمقراطية من حيث كونها وسيلة لترسيخ فرص التعايش السلمي لمختلف فئات المجتمع، وتؤمن قدراً من الاستقرار الكفيل بانتعاش الحراك التنموي على مختلف المستويات.
لكننا - مع الأسف الشديد - وجدنا أنفسنا في ساحتنا الداخلية نختلف حتى في ما أجمع عليه العالم بشأن الديمقراطية كخيار سلمي، إذ صارت بعض القوى تستغل الشعارات الديمقراطية لتشريع العنف، وإضفاء صبغة إباحية حتى للتعبئة ضد الثوابت الوطنية وتأجيج الفتن عبر ثقافة كراهية تكرس كل إمكانياتها البشرية والمادية لتعميقها، وتحويلها إلى قنبلة موقوتة تساوم السلطة بها، ضمن مساعيها للالتفاف حتى على عناصر الفلسفة الديمقراطية التي يجمع عليها العالم بأسره، كما هو الحال مع مشروع تقاسم الدوائر الانتخابية وضرب إرادة الناخب الحرة عرض الحائط، رغم أن الحق الشخصي في الانتخاب يمثل مرتكز الممارسة الديمقراطية التي تنهار بدونه وتتحول إلى واجهة مظهرية لخداع الرأي العام الخارجي بها.
إن ما تعيشه بعض القوى السياسية ما هو إلاّ شيزوفرينيا الديمقراطية - أي انفصام السلوكيات السياسية بين عقلية تعيش ثقافة الماضي بكل تفاصيلها، وبين واقع يتعايش مع ثقافة عصرية متحضرة، لم تجد تلك القوى مفراً من الاستسلام لتجربته الديمقراطية - ولكن - دون خلع أسمال الماضي البالية!!

تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 02:28 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-8181.htm