نجيب علاب -
لدى النخب الحزبية المعارضة ومحازبيهم المتطرفين عقلية يهيمن عليها نزعة الاتهام والتشكيك ونفي الشرعية، وخطابهم عادة ما يتسم بنزعة ناقمة وغاضبة تحكمه آليات فكرية مؤدلجة، والإشكالية العويصة أنها ممزوجة لدى البعض بالحقد والكراهية وأن حاولوا إخفائها خلف خطاب مزين بالشعارات، مع ملاحظة أنها عقلية على استعداد ان تقدم تنازلات متناقضة مع إدعاءاتها المثالية، من أجل مصالحهم، وهذا افقدهم القدرة على التحليل، وعلى تفسير الواقع الذي يعملوا فيه، وهذا جعل من رؤيتهم المقدمة غامضة ومشوشة، ومعزولة عن واقعها. رفض تلك النخب للحوار إلا بما يحقق مطالبها ومصالحها بصرف النظر عن الواقع ومصالح الآخرين، هو نتيجة طبيعة للتركيبة الفكرية لأحزاب المشترك ونوعية الخطاب المعتمد، فالعقلية المتحكمة بآلية عمل هذه الأحزاب ليست مؤسسة على وقائع بل على مثاليات متعالية، وعلى قراءات خاطئة وما يعمق من الأزمة التي تنتجها تلك الأحزاب هو التناقض بين مصالحها وأفكارها. إلى ذلك ونتيجة خوف ورعب أحزاب المشترك من مواجهة الواقع الجماهيري فخسارتها المتلاحقة يجعلها في هذه المرحلة المفصلية من التحولات السياسية غير قادرة على حسم أمرها، ويمكن القول أنها لن تجرؤ على الدخول إلى ميدان التنافس إلا من الباب الخلفي للانتخابات، وحديثها عن تسوية ميدان الملعب الانتخابي وقوانينه ليس إلا إخفاء لعجزها وإدراكها لحقيقة قوتها، كما أن الهروب يعبر عن خوف من فخ الصراع القادم فيما بينها وخوف من كشف طبيعة تحالفهم الهش. فالمتابع سيلاحظ ان المعارضة كلما اقتربت من التوافق مع الحزب الحاكم في المسألة الانتخابية تظهر قضايا أخرى لا علاقة لها بالانتخابات تعرقل التوافق وترجع الأمور إلى سيرتها الأولى، وكلما اتجه الحزب الحاكم لتفعيل القانون متجاوزا العرف ضجت تلك الأحزاب وبدأت تتحدث عن الأزمة الوطنية ومشاكل اليمن الكبرى متجاوزة الصراع على الانتخابات، وبين الحين والآخر تظهر المبادرات الكبرى لإصلاح الوطن ومعالجة الأزمات المختلفة، وكلما تقدم الحزب الحاكم بمبادرات واقعية لتسوية النزاع الانتخابي تتعاظم مطالب المشترك من خلال ممارسة ضغوط قوية تهدد المصالح الوطنية. وهذا السلوك لا تفسير له إلا أن أحزاب المشترك فقدت بوصلتها ولم تعد قادرة على فهم نفسها ومطالبها، كما أن الخوف من الانتخابات أفقدها إتزانها وواقعيتها، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الأحزاب عندما تواجه إشكالية كهذه فإنها تلجأ الى خطاب متعالي يتحدث عن مثاليات ويوسع من دائرة الصراع ليشمل القضايا الكبرى التي يحتاج حسمها لوقت طويل، كما أن الحديث عن ضرورة إعادة بناء المشروع الوطني بالتوافق مع كل القوى في الساحة حتى من قبل قوى قريبة من السلطة الهدف منه هو إعادة بناء التحالفات وتقسيم السلطة بين النخب. أين تكمن المشكلة؟ النخب السياسية لا تؤمن بالدولة الوطنية بالمفهوم الذي تؤسس له الديمقراطية بأبعادها الليبرالية، ولا بالديمقراطية كقيم ومفاهيم تشكل كل متماسك، وقبول الديمقراطية على مستوى الخطاب قبول مخادع وهو في أحسن الأحوال يركز على الإجراءات، وغالبا ما يتم طرحها كرؤية مثالية متعالية، وهذا ما يدفعها إلى نفيها من حيث الوجود في الواقع؛ رغم تحقيق نجاحات لا يمكن إنكارها. أما على المستوى الفكري، نجد أن النخبة تعاني من أزمة مركبة، فيما يخص انتمائها للدولة الوطنية، بفعل الإيديولوجية؛ الفاعل الأصلي في التعامل مع الواقع، والتي تعلى من الايدولوجيا والنظر إلى ما عداها كخادم لها، فالايدولوجيا فوق الدولة، وفوق المجتمع، وفوق الفرد، وهذا يجعل من التزامها بما يُنظّم الدولة ويؤسس لها ضعيف، فالمرجعية الأساسية لها ليس الدستور، ولا الدولة، ولا حاجات المجتمع، وإنما الإيديولوجية التي تؤمن بها، وهي إيديولوجيات في جوهرها متناقضة مع القيم الليبرالية والفعل الديمقراطي، وهذا ربما يفسر لنا عدم قدرتها على التعامل بمنطق العقل والسياسية مع الإحداث. مع ملاحظة ان الإيديولوجي ليست إلا القناع الذي يخفي طبيعة الصراع وهي تدور حول المصالح باعتبارها المحور الجوهري لكل فعل ولكل خطاب. ولأن النخب الحزبية تخاف من أن ترفض من قبل الناس، فأنها تتعامل بطريقة ذكية للتمويه على ذاتها وعلى المجتمع، وحتى على الحاكم. فتخفي رفضها للدستور مثلا بالقول أن الدستور حبر على ورق أو أن المؤسسات التي أسس لها الدستور هياكل فارغة. كما أن الديمقراطية والحقوق والحريات التي يحتويها الدستور غير موجودة على أرض الواقع ، أذن فالدستور باطل، وأن تم ترجمة الحقوق والحريات على أرض الواقع، فهي ناقصة وزائفة، وأن تم تحقيقها فأن الحاكم لو لم يكن مستفيد منها لما حققها، وهكذا يدخلونك في دوامة من الاتهامات والتناقضات. المتابع لسلوك المعارضة يلاحظ أنها مستمرة في صناعة الفشل وإعادة إنتاجه، وبصورته القديمة، وكأنها مدمنة على ذلك، وهذه الطريقة تضعفها ويخسر الشعب والديمقراطية قوة سياسية لو تعاملت مع السياسية بعقلانية لخدمت مصالحها ومصالح أهل اليمن، فالمعارضة تعيد إنتاج نفسها على مستوى الخطاب وطريقة التفكير وآليات العمل، مما يجعل عملها ونتائجه يقع في خانة السلب لا لإيجابية الفاعلة الخادمة للمجتمع والدولة. فالمعارضة تعاني من الجمود والركود فيما يخص تعاملها مع القضايا، فلديها عجز تام في إنتاج مفاهيم ورؤى جديدة للتعامل مع الواقع ومتغيراته، والسبب هيمنة فئة ديكتاتورية وقوى مستبد من قيادات الحرس القديم، تدعهما نخبة حزبية مسيطرة ومتحكمة بكل القرارات وتفاصيلها، وأي محاولة من الأعضاء المجددين يتم قتلها ونبذها. والخطاب المعارض مصاب بداء الجمود، ومازال قابع في مربع صناعة الأزمات مع الواقع، وإعادة إنتاج التفسيرات ذاتها رغم تغير الظروف والأوضاع، والرضوخ لمفاهيم وتفسيرات تجاوزها الزمن، واتضح من خلال التجربة ان نتاج هذا السلوك سلبي على المعارضة والوطن، مما جعل المعارضة غير قادرة على تجاوز مشاكلها، بل مازالت سائرة في نفس السياقات الماضية، مما جعلها تغرق في مشاكل كثيرة، أقلها غموض الرؤية، وأعلاها عدم قدرتها على فهم واقع اليمن وواقعها. ويمثل خطابها السياسي خير دليل على فشلها فخلال ثمانية عشر عام وأساليب المعارضة ثابتة لا تتغير، تكرر نفس المقولات، وتعيد صيغتها بطريقة مختلفة، وكلما كررتها زاد ضعفه، وتعاظمت قوة الحاكم، وتشكل الانتخابات الأخيرة في عام 2006م ونتائجها خير دليل وبرهان عملي يوضح مدى فشل خطابها وعجزه عن فهم الواقع وحاجات الناس وطموحاتهم. وربما يؤدي هروبها من الانتخابات القادمة إلى اختناقها وتحولها إلى أحزاب نخبوية تعيد إنتاج نفسها وتتداول خطابها المثالي والمتعالي فيما بينها، وتتحول إلى أدوات مدمرة للتحولات الديمقراطية وتزيد من الاتجاهات المتطرفة في المؤتمر والمعارضة والتي تسعى لبناء تيار سياسي شمولي تتنافس النخب من خلاله بمعزل عن الشعب. أصبح هناك إجماع خارج المعارضة، من المراقبين المحايدين ومن قوى معارضة ناضجة، أن خطابها السياسي وسلوكها المتناقض مع التحولات وخيالها المثالي هو سبب هزائمها المتلاحقة، والمشكلة العويصة رغم تجربتها الطويلة إلا أنها تعيد أنتاج الخطاب نفسه، وترفض النقد والتقييم، وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فان الاحتمال الكبير ان تفقد بقايا قوتها وقدرتها على المواجهة، وقد ينتهي الأمر بها في بروج عاجية معزولة، لا تخاطب إلا نفسها، ويتحول خطابها إلى خطاب متداول بين نخبها السياسية وقياداتها في الصحف المعارضة ومواقعها العنكبوتية والمقايل التي تجمعهم. المعارضة حتى الآن رغم ضجيجها وصخبها المزعج لا تملك إستراتيجية واضحة المعالم، فهي مبدعة في النقد وتشويه كل القضايا والتفسيرات المقدمة للواقع مثالية وبعضها مبني على أوهام، وتفسيراتهم تعيد صياغة الواقع بطريقة تحاول إثبات قوتهم ووجودهم وتحاول الإيحاء بأنهم صناع المستقبل وهذا في حقيقته ليس إلا خداع وتمويه لحقيقة الواقع وحركته وطبيعة القوى الفاعلة فيه، وهي في جوهرها خداع للذات والأنصار، ومن جانب آخر نوع من المقاومة لتخفيف وطأة الضربات القاصمة التي تلقتها المعارضة في الانتخابات المتلاحقة؛ وهروبها من الانتخابات القادمة تفسره بالملعب الانتخابي وهي على يقين ان المشكلة تقع في الواقع الذي ينتج الانتخابات لا في القانون الناظم له. واقع الأحزاب يفرض النقد، وإعادة التقييم، والواقع اليمني يتطلب الصبر وإعادة البناء الدائم والتعليم والتجريب، ولكن العقل المؤدلج من أعماه هوس السلطة يفقد قدرته على التفكير السليم ويتجه نحو أثارة الأزمات والمشاكل لتخويف الآخر حتى يتوافق معه على تقسيم الغنائم وبالتالي يصبح كل شيء تمام التمام. على المعارضة ان تقرأ الواقع بطريقة علمية ومنهجية، وان تتجاوز العاطفة والتحيز والرأي المسبق ومصالحها الأنانية، حتى تكون قادرة على معالجة أخطائها، وتنتقل من الاتهام إلى محاولة فهم الآخر كما هو لا كما تريد أن يكون عليه, وأن تنتقل إلى النقد الذي يفكك بنية الواقع بالتحليل والتفسير بهدف البناء لا للهدم والانتقام والنكاية. ومن المفترض أن تعيد قراءة مشاريعها السياسية وطريقتها في التعامل مع القضايا المختلفة، وان تعيد بنائها بما يتوافق مع الواقع والمرحلة، ومن الأفضل لها أن تمارس النضال بطريقة عاقلة ومتزنة بما يتواءم مع المتغيرات وحاجات الناس لا نخبتها الحزبية. ويمثل بعث الديمقراطية في أطرها الحزبية، والتواصل مع الناس، وفهم حاجاتهم، وتوظيف طاقتها في الرقابة وطرح السياسات البديلة، وتناول القضايا العامة بأسلوب علمي وتتجاوز الخطاب العائم والاتهامي والمشكك، هذه الطريقة تخدم البلاد وتسهم في تحسين أداء النظام السياسي. أما المظاهرات وإقلاق الأمن العام ومقاطعة الانتخابات وإطلاق التصريحات والتحليلات المخادعة سيقود المعارضة إلى العزلة والانغلاق على الذات وهكذا طريقة سينتهي بالمعارضة في الغرف المغلقة، وفي بروج عاجية، وهذا سيخلق لواقعنا اليمني الكثير من المشاكل. المعارضة هي أساس الديمقراطية وهي الوجه الآخر لشرعية النظام السياسي وهي قوة داعمة لمصالح الشعب، وضعفها لن يؤثر عليها بل على الجميع، مشكلة المعارضة أنها لا تقاوم من أجل الشعب بل من اجل مصالح نخبها ومصالح من يمثلها، وحتى نكون أكثر واقعيه فإن أطراف في المعارضة صادقة ومخلصة لكن سلوكها لا يسير في اتجاهات صحيحة. على المعارضة ان تخوض غمار التجربة السياسية بواقعية ونضج وان تنزل إلى الناس وتفهم حاجاتهم ومتطلباتهم وعليها ان تفهم واقع التركيب الفعلي للقوى الفاعلة في الساحة وأن تفهم نفسها وحركتها بطريقة صحيحة فالمعارضة التي قد تبدو أنها لصالح الشعب هي في حقيقتها ليست إلا صراع على المصالح بين قوى مهيمنة، صراع يجري باسم الشعب من أجل إعادة القسمة. وعلينا أن نذكر المعارضة أن فخامة الرئيس يبحث عن معارضة قوية وجادة، قادرة على المحاسبة والمراقبة بتعقل واتزان، لذا فإن رفض الشرعية وتوجيه الاتهامات في كل اتجاه لا يخدم المعارضة، بل يجعل منها عدمية، لان النتائج تقود إلى الصراع والتحزب والمواجهة والرفض المتبادل والشك، والمعارضة هي الخاسر الأكبر، لانها لا تملك قوة الحاكم، كما ان الجماهير لن تستجيب لأي خطاب تخريبي، فالجماهير تبحث عن من يدافع عن مستقبلها، لا من يجرها إلى الماضي لتفجير المستقبل. على المعارضة أن تدخل الانتخابات وخسارتها ليست نهاية العالم وليست أكيدة، وعليها في مراحل التحول أن تقدم الدراسات والبرامج العملية، وان تتجاوز وضعها الحالي المحصور في زاوية تكرار المقولات الاستهلاكية المملة، والمناكفات السياسية التي تذكرني بعناد الجاهل الذي يريد أغاضة وتعكير مزاج منافسه بأي وسيلة، والتعامل معه كعدو. وطريقة المعارضة الحالية لا تخدم إلا أعداء الديمقراطية، فإذا قاطعت الانتخابات وأغرقت نفسها في رفض شرعية الحاكم وقاومت نتائج الديمقراطية، وجعلت من المقاطعة والمشاركة من الباب الخلفي أسلوب نكاية ومناكفة بالحاكم عليها ان تدرك أن المجتمع والمراقبين ليسوا أغبياء وهكذا طريقة تزيد من شرعية الحاكم وقوته ومصداقيته وتعمق من شعبيته.