السبت, 06-ديسمبر-2008
الميثاق نت -  رائد قاسم -
يؤكد الفكر الإسلامي المعاصر على كون الدين المصدر الوحيد والنهائي للتشريع، وان الإسلام هو الدين الخاتم والتشريع الأول والأخير والدستور الشامل للأمة الإسلامية، مصداقا لقوله تعالى” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا “ لذلك فان المفكرين الإسلاميين ما برحوا ينادون باسلمة الدولة وأسلمة العلوم الإنسانية والطبيعية، وأسلمة الأنظمة والقوانين والتشريعات والأعراف الاجتماعية، إلا إن ذلك لم يحدث قط ! فعلى مدى التاريخ الإسلامي القصير نسبيا نهل العرب من مختلف الحضارات والأمم والشعوب التي فتحوها أو انفتحوا عليها، وتسللت للفكر الإسلامي عبر مذاهبه المختلفة وعقائده المتعددة الكثير من الفلسفات والعقائد الدينية والقوالب الحضارية التي تسربت إلى العلوم والمعارف الإسلامية بطريقة أو بأخرى، علاوة عل ذلك فان العرب في فترة ازدهارهم القصير لم يكونوا ليؤسسوا ما يمكن تسميته مجازا بالحضارة العربية والإسلامية لولا استعانتهم بما توصل إليه الناتج الإنساني المعرفي في ذلك الوقت، فابتدأوا من حيث ما انتهى إليه الآخرون، قياسا على ذلك فان الأمم المتطورة المتصدرة لقيادة العالم كأمريكا وأوربا في حقبتنا الزمنية الراهنة لم يصلوا إلى ما بلغوه اليوم من تقدم سريع إلا بعد أن نهلوا مما وصل إليه المسلمون وغيرهم من نظم وعلوم ومعارف فابتدؤوا من حيث ما انتهوا، حتى وصلوا إلى المركز الأول في سباق الريادة العالمي، ذلك أن التشريع الإسلامي الذي يتركز في الأداة التشريعية المعروفة بالفقه، تقوم على قواعد تراكمية اخترعها الفقهاء منذ نشوء الفقه بعد وفاة النبي (ص)، سواء كانوا صحابة أو تابعين أو من جاء بعدهم من أجيال الفقهاء المتعاقبة، ولا يمكن الجزم بأنها قواعد ثابتة وقطعية ومحكمة متوافقة مع حكم الله، وإلا لما تعددت واختلفت وتضاربت ! ولما تعدد الحكم الشرعي حول المسالة الواحدة بين أتباع المذاهب فضلا عن المذهب الواحد ؟! علاوة على انقسام المسلمين إلى عشرات المذاهب والفرق عبر التاريخ وحتى يومنا هذا، يقول الشيخ محمد عبده”:أما ما جاء في القران فعلى العين والرأس، وأما ما جاء في الحديث فعلى العين والرأس، وأما ما قاله الأئمة فهم رجال ونحن رجال”.

ويقول ابن تيمية: ويطلق الشرع في عرف الناس على ثلاثة معانٍ:الشرع المنزل:وهو ما جاء به الرسول وهذا يجب أتباعه، ومن خالفه وجبت عقوبته.

الثاني:الشرع المؤول، وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه، فهذا يسوغ أتباعه ولا يجب، ولا يحرم، وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به، ولا يمنع عموم الناس منه.

الثالث:الشرع المبدل، وهو الكذب على الله ورسوله، أو على الناس بشهادات الزور ونحوها، والظلم البين، فمن قال:إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع، كمن قال:إن الدم والميتة حلال، ولو قال:هذا مذهبي ونحو ذلك، وفي هذا الصدد يقول السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله): “فمن المتفق عليه بين المسلمين اليوم:أن القليل من أحكام الشريعة الإسلامية هو الذي لا يزال يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية، بالرغم من هذه القرون المتطاولة التي تفصلنا عن عصر التشريع. وقد لا تتجاوز الفئة التي تتمتع بصفة قطعية من أحكام الشريعة، الخمسة في المائة من مجموع الأحكام التي نجدها في الكتب الفقهية.والسبب في ذلك واضح، لأن أحكام الشريعة تؤخذ من الكتاب والسنة، أي من النص التشريعي، ونحن بطبيعة الحال نعتمد في صحة كل نص على نقل أحد الرواة والمحدثين_ باستثناء النصوص القرآنية ومجموعة قليلة من نصوص السنة التي ثبتت بالتواتر واليقين_ ومهما حاولنا أن ندقق في الراوي ووثاقته وأمانته في النقل، فإننا لن نتأكد بشكل قاطع من صحة النص ما دمنا لا نعرف مدى أمانة الرواة إلا تاريخياً، لا بشكل مباشر، وما دام الراوي الأمين قد يخطئ ويقدم إلينا النص محرّفاً، خصوصاً في الحالات التي لا يصل إلينا النص فيها إلا بعد أن يطوف بعدة رواة، ينقله كل واحد منهم إلى الآخر، حتى يصل إلينا في نهاية الشوط. وحتى لو تأكدنا أحياناً من صحة النص، وصدوره من النبي أو الإمام، فإننا لن نفهمه إلا كما نعيشه الآن، ولن نستطيع استيعاب جوّه وشروطه، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تلقي عليه ضوءاً. ولدى عرض النص على سائر النصوص التشريعية للتوفيق بينه وبينها، قد نخطئ أيضاً في طريقة التوفيق، فنقدم هذا النص على ذاك، مع أن الآخر أصح في الواقع، بل قد يكون للنص استثناء في نص آخر ولم يصل إلينا الاستثناء، أو لم نلتفت إليه خلال ممارستنا للنصوص، فنأخذ بالنص الأول مغفلين استثناءه الذي يفسره ويخصصه. فالاجتهاد إذن عملية معقدة، تواجه الشكوك من كل جانب ومهما كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد، فهو لا يجزم بصحتها في الواقع،ما دام يحتمل خطأه في استنتاجها، إما لعدم صحة النص في الواقع وإن بدا له صحيحا، أو لخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل عنها الممارس أو عاثت بها القرون”.

في عالمنا المعاصر تتشعب التخصصات وتزداد تعقيدا، وتظهر علوم جديدة على مختلف الأصعدة والميادين، ولكل منها فقهاء ومتخصصون في فروعها ومجالاتها المختلفة وأبعادها ومساراتها، لذلك يستحيل على رجل الدين، سواء كان فقيهاً أو مفكراً إسلامياً الدخول في تفاصيلها وجزئياتها وإسقاط فتوى أو حكم شرعي عليها بشكل إجمالي أو حسبي، حيث إن مناهج الاستنباط وقواعده وتخصصه الفني العلمي المجرد تتعارض وشئون هذه القضية أو تلك المراد إصدار فتوى حولها سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو قانونية أو حقوقية وجميعها ينتج عنها آثار ونتائج عامة وخاصة، وبالتالي فان الإفتاء حولها وإجبار الدولة كمؤسسة والمجتمع لجمهور أو كشعب على تطبيقها سيؤدي إلى نتاج عكسية وخطيرة، فالفقهاء أصحاب تخصص كغيرهم وتدخلهم في تخصصات غيرهم سيؤدي إلى شيوع الفساد الواسع النطاق جراء تطبيق هذه الفتوى أو تلك، والتي ليس لمطلقيها أي علاقة علمية حقيقية بالشأن الذي أصدروا حوله فتوى، بينما يحيد أصحاب التخصص الفعلي بحجة كونهم غير فقهاء ولا يشرعون بما أمر الله !! ومن هذا المنطلق فقد رفض المرجع الديني في العراق السيد علي السيستاني إصدار فتوى بشان الاتفاقية الأمنية المزمع توقيعها مع الولايات المتحدة وأوكل أمرها إلى البرلمان والشعب العراقي وحسناً فعل، فهذا الشأن ليس من اختصاصه كرجل دين بل من شان الدولة بمؤسساتها المختلفة، فهي المتخصصة بإصدار الحكم حولها لا رجال الدين الذين لا يحيطون بحكم تخصصهم الفني العلمي بطبيعة الشئون السياسة والأمنية والعسكرية، لا سيما المهمة والحيوية منها، وبالتالي فان إقحامهم فيها سيؤدي إلى عواقب عكسية على المدى المنظور، إذ أنها عبارة عن تخصصات علمية متشعبة ومتفرعة و تحتاج إلى مباشرة فقهاء وباحثين من جنسها ليتمكنوا من إدارتها واتخاذ القرارات اللازمة بشأنها.

من ناحية أخرى فان بعض الآيات القرآنية والنصوص الثابتة واليقينية التي كانت تعالج قضايا معينة وفي إطار زماني ومكاني محدد لا يمكن إسقاطها على مختلف العصور والأمم والشعوب، فآيات الرق في القرآن والسنة لا يمكن العمل بها في هذا الزمان، لانعدام الرق بصورته التقليدية، كما انه لا يمكن الادعاء بان الله سبحانه تعالى أجاز الرق واستعباد البشر، فقد كانت هذه الآيات تعالج شاناً من زمن النزول، لا لمنح الرق صفة الحلية والإباحة المطلقة لتعارضه مع قيم الإسلام وثوابته كدين سماوي، بيد أن العديد من الفقهاء لا يلحظون أن بعض النصوص الدينية التي تعتبر في عداد النصوص المقدسة كآيات القران الكريم كانت تعالج شئوناً خاصة بزمن نزولها فقط ولا يمكن تعميمها على كافة العصور لا سيما عصرنا الحديث الذي يجمع على اعتبار الرق من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

إن العقل من الله وهو حجة على البشر، قال تعالى “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها..” الآية. وما يحكم به العقل الاجماعي أو شبه الاجماعي أو بالأغلبية النسبية يوضع موضع التنفيذ والتطبيق، بناء على المصلحة العامة، والعبرة هنا بالأثر والنتيجة، فان كانت نتيجة هذا التشريع أو ذاك ايجابية بشكل عام فانه يبقى ويستمر مادامت نتائجه كذلك وان كانت نتيجته سلبية بشكل عام فان المتشرعة الموكلين بأمر التشريع يعمدون إلى إلغائه واستبداله أو تعديله على نطاق جزئي أو واسع.

وقد يؤخذ التشريع من فتوى أو قد يؤخذ من العرف وقد يؤخذ من علوم ومعارف وآفاق الأمم الأخرى. فالتشريع حكمة وعلى الجميع طلبها، وفي ذلك يقول النبي (ص) “الحكمة ضالة المؤمن”. وقد اتخذ الخليفة عمر بن الخاطب الكثير من القرارات بناء على المصلحة وبصفته حاكما سياسيا وإداريا لا بصفته فقيها، كقرار إسقاط حق المؤلفة قلوبهم باعتبار أن المسلمين أقوياء وليسوا بحاجة إلى منحهم أموالاً وأحقية فقراء المسلمين بها. وكذلك عندما أمر بهدم المنازل المجاورة للكعبة بهدف توسيع المسجد الحرام وعندما عارضه أهلها قال لهم انتم من تزاحمون الكعبة وليست الكعبة من تزاحمكم.

إن المصلحة دائما ما تكون نسبية وليست ثابتة، فالتشريع الذي قد يكون صالحا اليوم قد لا يكون صالحا غدا، أما ما يطرحه الإسلاميون من حجية الأحكام القطعية في التشريع، فان هذه الأحكام التي تأخذ صفة القطع واليقين بالإجماع توضع في مدار القانون الأب أو ما يمكن تسميته بالقانون المركزي، وتنظم بحيث لا تتعارض مع بقية القوانين النسبية. ومن هنا يمكن القول إن التشريع الديني سواء كان أحكاماً أو فتاوى قديمة أو حديثة ومن أي مذهب كان، من الممكن العمل بها وان تكون مصدراً من مصادر التشريع وإصدار الأنظمة والقوانين بناء عليها بشرط أن لا تسقط إلزاما أو إجبارا، وإنما يتم التعامل معها على كونها تشريعات نسبية مؤطرة بالزمان والمكان وتنفد بإرادة وطنية عبر مؤسسات دستورية شرعية، لا كونها أحكاماً مطلقة موجبة التطبيق باعتبارها من شرع الله. وبذلك يمكن للفقه الإسلامي المساهمة في تشريعات الدولة الوطنية حقوقيا وقانونيا ودستوريا من خلال ذلك، ومن دون حدوث أي صراعات وتنازعات يكون ضحيتها الدولة كمؤسسة جامعة مركزية وشعبها الذي يسعى للحاق بركب الأمم المتقدمة والقوية دون أن يكون دينه عائقا أمام خوضه سباق السيادة.

-----------------------

* كاتب من السعودية - عن "14 اكتوبر"
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 04-ديسمبر-2024 الساعة: 07:42 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-8253.htm