بقلم: د.مصطفي عبد الغني -
هاهي محرقة أخري تشتعل هي محرقة أخري تبدو للكثير منا أنها خارج أوطاننا العربية في حين أنها تمثل- علي المستوي الرمزي والعضوي_ داخل سويداء القلب من كل إنسان عربي; أتحدث عن محرقة غزة أيها السادة.. المحرقة التي لا يتنبه لها بالقدر الكافي مثقفونا وعلماونا..
لقد دهشت لردود الأفعال علي محرقة ومجزرة غزة هذه الأيام, ولم يكن مبعث الدهشة بسبب الصمت المحدق بنا من كل جانب, ولا العديد من المواقف الغامضة التي رأينا في ضوئها غياب العديد من أصوات المثقفين النافذين أو_ حتي_ غياب الكثير من المواقع الرقمية أو تغييبها أو نشر العديد من المعلومات الخاطئة عن السنة والقرآن الكريم حتي أننا نجد الكثير من المواقع المريبة تنشر الكثير عن ديننا الحنيف وتستشهد بما أسمته' الفرقان الحق' إلي درجة أن العديد من هذه المواقع المريبة تم حجبها_ بالفعل_ في عدد من الأقطار العربية في وقت لم يتنبه فيه الكثير من مثقفينا وشبابنا علي المواقع الرقمية.. أقول دهشت من موقف العديد من علمائنا ومثقفينا..
ومن ذلك ما قرأناه بالحرف' من الغريب أن السبت يوم مقدس عند اليهود ولو أرادوا أن يحاربوا لما اختاروا يوم السبت..' إلي غير ذلك مما ردد, وكأننا في مواجهة تاريخية مع اليهود_ أهل الكتاب_ اليهود الذي نعرفهم في التاريخ وكتبنا المقدسة وليس الصهيونية بوجهها القبيح وليس ما نعانيه من جذور العنصرية الغربية التي وضعت في أرضنا لتنبت نباتا غريبا لا يمت بصلة لليهود_ دينيا_ أو_ حتي أنثروبولوجيا..
والواقع أن كتابات كثيرة صدرت وظهرت من سنين بعيدة في الشرق والغرب تؤكد- جميعها- أن قيام إسرائيل لم يكن بإيعاز يهودي خالص بقدر ما كان السعي لإقامة الغرب' لدولة وظيفية'.. وجدنا هذا في كتابات كثير من المثقفين الواعين خاصة في الستينيات من جمال حمدان في كتابه الملحوظ'أنثروبولوجيا اليهود' إلي عبد الوهاب المسيري في كتاباته المتوالية من موسوعته' اليهود واليهودية والصهيونية' وتجلياته المتوالية: إشكالية التحيز وأسرار العقل الصهيوني. والصهيونية والنازية ونهاية التاريخ و من هو اليهودي و اليد الخفية, مرورا بأهم تجلياته عن دور هذه' الجماعات الوظيفية اليهودية' التي تلعب دورا بشعا لصالح الغرب..
وقد يكون من المهم ان نشير هنا إشارة- مجرد إشارة_ لجهد د.عبد الوهاب المسيري العميق في هذا الصدد لقد راح الرجل يشير إلي كتابات جمال حمدان وخاصة( استراتيجية الاستعمار والتحرير) الذي راح يؤكد فيها صاحب العبقرية علي أن إسرائيل ظاهرة استعمارية صرفة أما الصهيونية فهي بكل بساطة هي قطعة من الاستعمار الغربي; ولكنها قطعة تتمتع بأهمية خاصة فهي بالنسبة إليه قاعدة متكاملة آمنة عسكريا, ورأس جسر ثابت استراتيجيا, ووكيل علم اقتصاديا وعميل خاص احتكاريا..
ولتأكيد دور'الجماعات الوظيفية اليهودية راح في عديد من أعماله ليعيد تذكيرنا بما أكده جمال حمدان في كتابه المهم( اليهود أنثروبولوجيا), بل انه أعاد طبع هذا الكتاب في التسعينيات مرة أخري بمقدمة وخاتمة وافية أراد أن يؤكد فيها ما كان قد أكده من قبل جمال حمدان.. وعبورا علي التأكيد من أن يهود التوراة ليسوا هم يهود اليوم أنثروبولوجيا راح يحدث هذا كله بمزيد من الدراسة وإعادة طرح' نموذج تفسيري جديد' لكشف هذا الوهم الذي يريدون تأكيده لنا, وكأنه أمر عادي,
في حين أن التاريخ والخبرة المعاصرة تؤكد لنا العكس, الأكثر من هذا أن المسيري راح يردد لنا ما سبق أن ردده جمال حمدان من بدهيات الواقع من أن إسرائيل استعمار سكني في الدرجة الأولي, فلئن كانت بداياتها قد واكبت وجه الاستعمار المداري في القرن التاسع عشر, إلا أنها استهدفت وحققت كل مقومات الاستعمار المعتاد الذي ساد في القرن السابع عشر والثامن عشر وسعي إلي التوطن الدائم في بيئات معتدلة شبه أوروبية المناخ. ويردد د. المسيري في نهاية التسعينيات ما كان ردده وأكد عليه د. جمال حمدان في الستينيات من القرن العشرين من أن استعمار الجزائر كان أقرب سابقة لها تاريخيا, ولكنها تظل تمثل آخر موجة من الاستعمار السكني في العالم كله..
ونمضي مع كل هذه الحقائق التي رددت بيننا في النصف الثاني من القرن العشرين دون أن نتنبه إليها بالقدر الكافي, ففي حين أكد مثقفونا أن هناك خصوصيات استعمارية بغيضة للاستعمار السكني التوسعي العسكري بالتعاون مع الإمبريالية الغربية, نفزع_ نقول نفزع- لمثقفينا وعلمائنا داخل الأزهر وخارجه ممن يزالون يرددون الكثير عن ما يفعله اليهود اليوم..
لقد أسهب الكثير من المثقفين_ من العالم العربي والغربي- حول تأكيد هذه المجموعة الوظيفية التركيبية التي تستعمر بلادنا في حين انه لا تطابق تفسيريا قط بين ما تفعل من القيام بالمحارق والمجازر وبين ما ينادي به دين سماوي..
الأكثر من هذا أننا نستطيع لتأكيد هذا العود إلي أبعد من القرن التاسع عشر لنري كيف كانت تسعي الكيانات الاستعمارية في الغرب, في بلادنا, لتوفير المناخ المناسب للجماعات الوظيفية- اليهودية_ ليلعبوا هذا الدور الاستعماري البغيض ضدنا, فالعديد من الوثائق بين أيدينا تؤكد علي الدور الإمبريالي البغيض الذي سعت إليه القوي الإمبريالية الغربية في فترة العصر العباسي لتأكيد دور هذه الجماعات لتلعب الدور المناط بها ضدنا في المنطقة في حين أن سادتنا, مثقفينا وعلماءنا الأفاضل مازالوا يراوحون مكانهم فيبررون لهذه الجماعات الاستعمارية البغيضة ما تفعله بإخواننا وأبنائنا في غزة والعديد من المدن العربية الأخري..
إن المحرقة تشتعل في قلوبنا أيها السادة المثقفون والعلماء والفضلاء