الإثنين, 31-يوليو-2006
د‮.‬غيلان‮ ‬الشرجبي -
- كلما وقفت وفقة تحليلية للشأن الأمريكي المعاصر، تذكرت قولاً مأثوراً، وحكمة أثيرة، للسيد المسيح -عليه السلام- ونصها: »ما ينفع الانسان لو ربح العالم وخسر نفسه«، والانسان -هنا- ليس الفرد، فما يصدق على الجزء يصدق على الكل، و»وحيدة القرن- أمريكا« انفردت بسيادة العالم، لكنها خسرت نفسها، فالمنطق الأمريكي الراهن، لم يعد مقبولاً أو مفهوماً حتى لدى أولئك الذين أعجبوا بالنموذج الأمريكي الأصيل، وظلوا يلتمسون له المعاذير حتى صعقوا أمام هذا التغيير الجذري الذي افتقد صلته بالمنطق الحضاري وإن ظل يزايد بالتحضر.. وتجاوز حدود المعقولية، فانتفت عنه صفة العقلانية.. نعم -نستطيع تفهم حقيقة: أنه لا يوجد نظام سياسي خالٍ من السلبيات، وعلى من ينبش البوادر السلبية أن يفتش عن الظواهر الايجابية.. وأنه لا وجود لمجتمع انساني بلا عيوب، وأن من عاش وعايش واقع الحال في الحياة الأمريكية، قبل هيمنته »المحافظين الجدد« على مراكز القرار الأمريكي -لا يمكن إلاّ أن يخرج بانطباع »يتجاوز مخزون الذاكرة« عن »الوحشية المطلقة للنظام الرأسمالية«، و»الجشع المتوحش لمؤسساته الاحتكارية« أو »وحشية النبذ العنصري للأمريكيين الأفارقة«... الخ، على الأقل.. لأن الدستور يضمن حقوق المواطنة، ويساوي بين الجميع، ويعتبر التعصب الإثني جرماً، والاضطهاد لسبب الجنس واللون أو المعتقد جريمة.. ويشرع لحماية البسطاء بتوفير هوامش مقبولة للحياة الانسانية -وتأمين الشروط المعيشية بحدودها الممكنة، التي يكفلها »الضمان الاجتماعي، التأمين الصحي، قانون العمل«، بما في ذلك من خدمات مجانية، ومشروعية التمتع بالحقوق الأساسية وكلها حصيلة »مستحقات ضريبة الدخل والضرائب التراكمية عن المؤسسات الاستثمارية«، والتي تتصاعد كلما ارتفع رصيدها، كأحد تقنيات أكسر حدة التقاليد الرأسمالية«، و»ترشيد النزعة المادية«.
وينطبق ذلك على السيكولوجية العامة للشخصية الأمريكية والتي غالباً ما توصف بـ»المادية المفرطة« النظرة الدونية للآخر، وتمجيد البطل الأسطورة أو الـ»super man« كعقيدة أصيلة في التراث الاجتماعي، التحريضي لاستعباد وابتزاز الشعوب الضعيفة، واستنزاف موارد المجتمعات النامية، ورغم واقعية هذا التوصيف -نسبياً- إلاّ أن الأحكام العاطفية غالبة عليه.. إن لم يكن اطلاقها على عواهنا ينم عن تنظير ايديولوجي مضاد، يعتصف التحليل الموضوعي بدوافع سياسة- أو تحركها رؤى مثالية، لا عقالة لها بـ»عالم صراع المصالح« حتى أنك لو سألت أمريكياً منصفاً -لقال: »اعترف بسلبيات السياسات الخارجية الأمريكية، لكنها -أولاً وأخيراً- لم تضرب على يد أولئك الذين يستسلمون لها- فالعلاقات في المجتمعات المدنية، علاقات مؤسسية، ولو أعلن عن مناقصة، وقدمت شركات أجنبية، عروضاً أفضل، لرست عليها المقاولات وحرم منها المنافسون الأمريكيون، ولأضاف عبارة »Business is budiness« ليقول: »إن المسيح المخلص لم يأتِ موعدة بعد، ليملأ الأرض عدلاً وانصافاً بعد أن امتلأت ظلماً وجوراً.. فنحن بشر«.. فالابتزاز والاستنزاف الأمريكي لموارد وثروات الآخرين مسئولية تلك الأنظمة التي عجزت عن الاضطلاع بأدوارها الوطنية، ففرطت فيها.. وهي حتى في علاقاتها التقليدية بأمريكا لم تستفد من طبيعة العلاقات الداخلية للنظام الاجتماعي الأمريكي، الذي استطاع استيعاب ألوان الطيف الحضاري، الذي شكلت موجات الهجرة نسيجه العام، لفرز ذلك التنوع الابداعي، لمجتمع معاصر، الأفضلية فيه للانتاج، ومعيارية المفاضلة مرجعيتها حيوية العمل الانتاجي، وتكامل العلاقات المؤسسية، وتبادل الأدوار الانتاجية، والانتاجية فحسب، فلا خطوة لأحد بحكم القرابة، والوجاهة، أو المكانة التقليدية، ولا استثناءات طائفية أو مناطقية أو عرقية، لذلك تسير الحياة بوتيرة عالية، يوظف التنوع، واستقطاب »العقول المهاجرة«، و»حرية الحركة الاستثمارية«، لإثراء تجربة ديقمراطية رائدة، جعلت من أمريكا »قلب العالم المتحضر مع أنها حديثة العهد«، صنعت من الحداثة بداية لتاريخ انصهرت في بوتقة كافة الحضارات التاريخية، فاستحق أن تكون أمريكا مركز اشعاع حضاري، ووريث شرعي لتجارب انسانية أُضطهدت في أوطانها، فراحت تبحث عن نفسها في بلد »الحريات العامة« حيث يقام »المسجد بجانب كنيسة تليه كنيس«، ويختزل مشهد العالم بأسره، بثقافات وملابسه وتقاليده في كل زاوية من زوايا المدنية الأمريكية، التي يتعايش فيها الجميع بوعي ديمقراطي، وانفتاح حضاري، تسود التوازنات الذاتية بين الخاصة والعامة.. فالاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية للأقليات لا ينفي قواسمها المشتركة مع الآخرين، ليظل الولاء للنظام الاجتماعي والسياسي العام رابطاً للإجماع الوطني، ومعياراً لمشروعية الانتماء،‮ ‬والمصداقية‮ ‬الوطنية‮.‬
إنها صورة مثالية لـ»جمهورية افلاطون« لكنها ليست من صنع الخيال الرومانسي، فهي خلاصة تجربتي الشخصية، أثناء دراستي في أمريكا، قبل عقدين من الزمن تقريباً، فكانت فرصة للاغتراب، دون الشعور بالغربة، ليس لوجود »جالية يمنية« استطاعت الاحتفاظ بخصوصياتها، لتشعر عند زيارة القرية العربية »arabic village« بمنطقة »دير بدرن« بـ»ولاية متشجن« وكأنك بأحد »الأحياء الشعبية اليمنية«، وإنما لأن روح الزمالة، والعلاقات الانسانية، بين طلبة وأساتذة من كافة الجنسيات، الخلفيات الثقافية والعقائدية، تضفي على الأجواء الدراسية نكهة خاصة، وكأن‮ ‬هذا‮ ‬التنوع‮ ‬مصدراً‮ ‬فريداً‮ ‬للمعرفة،‮ ‬لتطل‮ ‬على‮ ‬العالم‮ ‬من‮ ‬حولك،‮ ‬عبر‮ ‬شاشته‮ ‬الكبيرة،‮ ‬الحية،‮ ‬في‮ ‬الساحة‮ ‬الأمريكية‮.. ‬فماذا‮ ‬حدث‮ ‬الآن؟
لقد تهاوى ذلك كله.. وأكاد أجزم أن المواطن الأمريكي العادي لا يصد ما حدث، وغير قادر على تصديق هذا الانقلاب الشامل في حياته.. إنه كابوس.. تحول سياسي لابد أن يشعر الخارجون عن دائرته.. أنهم غريبون عنه، فهو غريب عن بيئته، باستثناء التيار المتطرف، وغريب عن العالم من حوله.. ما عدا »بلير« وأمثاله.. حتى أن استطلاعات الرأي العام الأمريكي، تلخص لا معقولية هذا الوضع، فهي تشكك بمصداقية »إدارة بوش«، ولم تعد واثقة بـ»خطابه السياسي«، وفي الوقت نفسه تحتار أمام »ظاهرة الارهاب الخارجي«، وهل يستهدف أمريكا والأمريكيين -فعلاً- وهل لـ»حماية الذات«هذه الضريبة الباهظة التي تقيد الحريات، أم هي أوهام يفتعلها »المحافظون الجدد« لتمرير سياساتهم الخاصة؟؟.. وهي أسئلة مشروعة، لكنها تثير سؤالاً جوهرياً أشمل، وهو: هل للمؤسسات الاعلامية سياسة كل هذا التأثير الانقلابي، وأين التقاليد الديمقراطية‮ ‬الأصيلة،‮ ‬وكيف‮ ‬تلاشى‮ ‬الرأي‮ ‬الآخر،‮ ‬وافتقد‮ ‬حيوية‮ ‬ترشيد‮ ‬الوعي‮ ‬العام،‮ ‬وهل‮ ‬بوصول‮ ‬حاكم‮ ‬أو‮ ‬حزب‮ ‬حاكم‮ ‬الى‮ ‬السلطة،‮ ‬يستطيع‮ ‬امتلاك‮ ‬هذه‮ ‬القدرة‮ ‬لتشكيل‮ ‬الواقع‮ ‬وفقاً‮ ‬لإرادته‮.‬
إن مجرد القبول بكهذا فرضية أمر مخيف، ليس للوضع الأمريكي-فحسب- بل: لكل مجتمع انساني يعشق الحرية، ومغرم بـ»المهر الديمقراطي«، ليكتشف أن مصير الشعوب يظل رهناً بالمشيئة الفردية، والتي تعيد الى الأذهان، المقولة العربية »الناس على دين ملوكها« فحين يصل الى البيت البيضاوي، شخص متحضر، يؤمن بالديمقراطية، يسود منطق العقل، والعلاقات العقلانية، فإذا اعتلى الادارة »رعاة البقر« مدمنو »أفلام الرعب التكساسية« ألقوا على الحياة طابع »الراعي الذي لا يفرق بين قطيع المواشي، والجنس البشري، ومثلما اعتاد بوش الصغير، ترويض الخيول، في حديقته بـ»ولاية تكساس« يريد أن يطبق نفس تقاليده الموروثة جيلاً عن جيل، لأسرة عريقة بتربية الماشية، كوسيلة مُثلى أصيلة لترويض شعوب العالم، ولأن للوطن العربي والعالم الاسلامي خصوصية.. الديموغرافية، واحكام السيطرة عليه يعني السيطرة على العالم.. فقد صارت المنطقة »اقطاعية خاصة للسيد بوش« ومجتمعاتها »قطعان ماشية«.. في مزرعته المترامية الأطراف، فتناثرت فيها الحظائر، ليرث »امبراطور العصر« هذا الكم المتراكم من الطبائع المتنافرة، المتداخلة، حتى لم يعد قادراً على معرفة أيها »أليف، مستأنس، متوحش«، وتلك مهمة صعبة، ربما اقترح أحد »شعراء بلاط السيد بوش«، من العرب، طبيعة، فأغراه بأن للسياسة معاني عدة، ومنها: »ساس الخيل بمعنى أخضعه لطاعته وامتثال أوامره« ليمتطيه أو ليضع على ظهره أغراضاً، وأنه للغة العرب خصائص مثالية لتأصيل »ثقافة الاستسلام« بتكثيف المادة الاعلامية، واستنباط النصوص الفقهية، المناهج الدراسية، تؤكد علاقة »الراعي بالرعية« لمخاطبة العقلية العربية، بلغة التطابق بين »رعاة البقر« و»رعاة البشر«، وبحكم الطباق والجناس، وتشريعات »ولاية تكساس« فإن راعي الأبقار الأمريكية، أولى بالولاية على الرعية، من كل العرب والعجم، وإلاّ لما صار »راعي النظام العالمي الجديد الذي تحتكم إليه جميع الأمم.. وينطبق هذا التأصيل اللغوي على »ترويض، تطويع، تطبيع«.. وغيرها من المترادفات ذات المعنى الواحد.. إذ لا اختلاف في الدلالات اللفظية، سواءً استخدمت لاستئناس حيوان، أم سياسية إنسان.. ولأن »مزارع أبقار تكساس« مليئة بـ»الحظائر، الاسطبلات، الزرائب« فربما اشتبه الأمر على »رعاة البيت البيضاوي« لهذا لا عتب عليهم لعدم ادانة »جدار الفصل العنصري«، وتقطيع الأراضي الفلسطينية الى كنتونات، وتدمير البيوت على رؤوس شعب أعزل«.. فتلك شريعة »رعاة البقر«.. ولمَ استنكار »المجازر« وفي كل مزرعة تكساسية عشرات المسالخ«.. ولماذا التباكي على »حقوق الانسان« والغرب يحترم حتى »حقوق الحيوان«؟ ومع ذلك لا يحرم ذبح المواشي، واصطياد أي حيوان وحشي.. كما أن الاغتصاب -أكان في عالم الانسان أم الحيوان- لا يعتبر ذنباً يوجب العقاب، فلا غرابة أو استغراب، أن تنتهك »جحافل التحرير الأمريكي للعراق« الأعراض، لقياس ردود الأفعال، فمن يستنكر أو يشعر بالعيب أو الحرمان أو الثأر للعار، فذاك مؤشر على أنه »متزمت، متخلف، مسلم ارهابي، أو عربي بربري، يستحق الإمعان في قمعه وإذلاله« وأن يسحق ويمتهن، حتى يتمدن،‮ ‬فيلحق‮ ‬بركب‮ »‬العم‮ ‬سام‮« ‬مذعناً‮ ‬لمشاريع‮ ‬الاستسلام‮ -‬ليعيش‮ ‬بسلام‮.‬
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 27-سبتمبر-2024 الساعة: 11:27 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-98.htm